نهاية المثقف تعيد أفكار كاليكيس إلى الواجهة

"خيانة المثقفين" نظرة ناقدة للمثقفين الجدد.
الخميس 2024/08/15
المثقف يحاصر نفسه بنرجسيته (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

تحولت أدوار المثقفين اليوم من طلائع الهامش إلى أعوان المركز، حيث استقطبت السلطة جل هؤلاء واشتغلت بهم لبناء خطابها وإخماد أصوات الهوامش، بينما بقي هؤلاء يرزحون تحت الحاجة والولاء والنفع. وحتى الأيديولوجيا، على علاتها، تخلوا عنها لصالح توجهات بعيدة كل البعد عن المبادئ الإنسانية. 

مع حراك الحداثة الفكرية ثارت الشكوك بشأن الوثوقيات وامتد النقد إلى الثوابت والمبادئ التي كانت من محددات العقل البشري، وبذلك لم تعد هناك مسلمات أو أفكار أو عقائد غير قابلة للنقاش، وما يلبث طويلا حتى يكون مفهوم الحداثة نفسه مشمولا بالنقد لاسيما بعد الكوارث التي تبعت انطلاق مشروع التنوير، إذ رأى نفر من الفلاسفة بأن ما قاد البشرية إلى مصيرها البائس هو العقل الأداتي الذي خسر بسببه التنوير بعده الإنساني.

 والأسوأ من ذلك أن جل المفكرين قد ساهموا بآرائهم في توفير غطاء لحملات هادفة إلى بث سموم التفوق العرقي والأفضلية القومية. وهذا ما يتناوله المفكر الفرنسي جوليان بيندا في كتابه “خيانة المثقفين”، إذ يذكر ما قاله رواد الفكر الألماني في نهاية القرن التاسع عشر، وقبل الحرب العالمية الأولى، عن الاستعلاء القومي.

تدجين المثقفين

◙ بيندا يرصد تمظهرات التفوق القومي في المتون الفكرية والخطابات الدينية مثبتا أن السياسة سيطرت على الفعاليات الثقافية
◙ بيندا يرصد تمظهرات التفوق القومي في المتون الفكرية والخطابات الدينية مثبتا أن السياسة سيطرت على الفعاليات الثقافية

لقد راجت مقولة مفادها أن ألمانيا لها الحكم المطلق على النهج الذي تسير عليه. وكانت لهذه النظرة جذور في أدبيات الفلسفة الجرمانية فقد أسبغ كل من فيشتة وهيغل نفسا قدريا لنجاح العرق الألماني، ما يعني أن تفوقه من حتميات التاريخ، وينشر أحد المفكرين في ألمانيا أن المؤرخ الصادق هو الذي ينقل الحقائق التي تؤكد جدارة ألمانيا بالعظمة.

ويشير جوليان بيندا إلى أن المثقف القومي ابتداع ألماني لكنه لا ينكر تداعي هذا الحس بأفضلية الأصالة العرقية إلى فرنسا. يقول بعضهم الدولة إذا أخطأت فيجب علينا أن نراها على الصواب. إذن توارى من المشهد أصحاب المذهب الإنساني وأصبح صوتهم خافتا لأن النغمة القومية قد صادرت الفضاءات الثقافية والفكرية. فقد طالب وزير التربية والفنون الجميلة بإيطاليا في 1926  بأن على أهل الفن أن يعدوا أنفسهم للوظيفة الإمبريالية.

أباح الخطاب القومي في الغرب تطويع الدين لخدمة أهدافه المتمثلة في الترويج للمشروع الاستعلائي، يستنكر فيشتة تزهد الدين في الاهتمام بالسياسة وشؤون الدولة كما فعلت ذلك المسيحية، رائيا في هذا المنحى إساءة لمفهوم الدين. وما يلفت نظر بيندا أن المشاعر الدينية في فرنسا وألمانيا قد اندمجت بالمشاعر القومية مع أن السيد المسيح قد استغرب نسيان أتباعه بأنهم كلهم بشر بمجرد أن بعض الأنهار والجبال قد تفصل بعضهم عن البعض الآخر، وقد لا يصدق بأن فيلسوفا من معدن هيغل قد أراد إيجاد مستند لفرضية التفوق العرقي من خلال الإثبات بأن أفلاطون قد عرف في جمهوريته المدينة الفاضلة بأنها مكان تصلح فقط لليونانيين.

 ما يخلص إليه بيندا من رصده لتمظهرات التفوق القومي في المتون الفكرية والخطابات الدينية أن السياسة نجحت في إدارة دفة الفعاليات الثقافية بعيدا عن الرؤية الكونية، إلى أن صار المثقف ملحقا أو تابعا لرجل الدولة، وهذا ما يعتبره الكاتب خيانة من المثقفين لأسلافهم من الفلاسفة ورجال الفكر، لأن الانتماءات الفرعية لم تمنع العقول المستنيرة من تبصر الحقيقة والنظر أبعد من الطائفة والعرق والتحزب، فكان شيشرون قد أدان تدمير أبناء وطنه لمدينة كورنث انتقاما للإساءة التي تعرض لها سفيرهم، ودافع فولتير عن عائلة كالاس وهي من الأقلية البروتستانتية، ولم يمنع الاختلاف المذهبي فيلسوف الأنوار من مناهضة التعصب الطائفي ومساندة الضحية. وساند عدد من المثقفين الفرنسيين وعلى رأسهم إميل زولا الضابط دريفوس عندما تعرض الأخير لمكيدة ورفض طلبه بالبحث عن الحقيقة وعدم الاستسلام للرواية الرسمية التي تعكس رأي الجموع.

 لكن مقابل هذه الفئة التي تنشد العدالة وتستنكر الغوغائية القومية يرى بيندا أن غالبية المثقفين ورجال الفكر والكهنة قد شاركوا في ترانيم الكراهية بين الأعراق والأحزاب والمكونات الاجتماعية، ما يعني أن الاستقلال الفكري لم يكن إلا حالة نادرة في لجج الخطابات المؤججة للتعصب. وما يعمق أزمة الثقافة هو الانتصار للمذهب النفعي والتهافت على المكاسب المادية والمعنوية، والحال هذه فمن الطبيعي أن تكون الثقافة تابعة للسياسة. وبالتالي تصبح السياسة هي التي تحدد الأخلاق حسب رأي موراس، وبذلك تفوق على مكيافيلي الذي فصل بين الحقلين ولم يجد مشتركا يجمع بين السياسة ومبادئ الأخلاق.

◙ عدم مطاردة المثقف في الوقت الحاضر ليس دليلا على وجود الحرية أو تفوقه في المواجهة أو اختفاء المظالم

يذكر جوليان بيندا بأن البؤس الأخلاقي في عصره أشد وطأة  قياسا بما كان عليه الوضع في العهد الإغريقي أو في زمن مكيافيلي، لأن الفيلسوف اليوناني كاليكيس الذي كان يخاصم سقراط ويزدري مفهوم العدل، مؤكدا أن القوة هي المبدأ الأخلاقي الوحيد، قد نبذه عالم المفكرين، كذلك الأمر بالنسبة إلى صاحب “الأمير” فهو لم يكن شخصا مرغوبا فيه.

بينما لاحظ بيندا أن الأعراف المكيافيلية قد هيمنت على الوسط الثقافي وأن مواكبة الموجة السائدة قد فرغت الرسالة الفكرية من رأس مالها الرمزي، واللافت في المشهد أن جل المثقفين لا يشغلهم سوى الحفاظ على الوضع الراهن، ويتوجسون من أي حراك لا يوافق هواهم، الأمر الذي يكشف عن غياب التأثير ومحدودية الدور على الصعيد الواقعي، والإخفاق في التواصل الحيوي مع الأفكار.

لذلك فإن عدم مطاردة المثقف في الوقت الحاضر ليس دليلا على وجود الحرية أو تفوقه في المواجهة أو اختفاء المظالم بقدر ما يشير، حسب قراءة بعض المتابعين، إلى تحول العاملين في الحقل الثقافي إلى أصوات مدجنة في ترسانة النظام الإعلامية، وبهذا لم يعد للمثقف موقع بل أصبح نجما على حد تعبير رجيس دوبريه، لكن نسبة تأثيره دون مستوى ما يكون لنجوم السينما والرياضة.

وما يفتح المجال للسؤال عن جدوى المثقف أن الأحداث تسبقه وتباغته بعدم فاعلية أفكاره، هنا يذكر المفكر اللبناني علي حرب بثورة 1968 الطلابية وما تبعها من الريبة حول مكانة المثقف وجدارته بأن يكون وصيا على القيم أو معبرا عن ضمير الناس. إذ اعترف سارتر بأنه لا يقبل بأن يفكر المثقف نيابة عن الآخرين، كما أعلن فوكو بأن الحقيقة ليست حظوة رجل الفكر أو المثقف. لا شك أن ضيق أفق التكفير وتهاوي القيم الكونية والإفلاس الرمزي للمشاريع الفكرية كل ذلك يعمق أزمة الخواء الثقافي وتهالك مصداقية المبادرات الرامية إلى الخروج من عنق الزجاجة.

نظرة يوتوبية

◙  آراء بيندا عن مواصفات المثقف لا تخلو من نبرة يوتوبية
◙  آراء بيندا عن مواصفات المثقف لا تخلو من نبرة يوتوبية 

لا تخلو آراء بيندا عن مواصفات المثقف من نبرة يوتوبية وقد تكون مثيرة للغرابة بالنسبة إلى الخط البراغماتي والمنحى التشيئي الذي تنص أخلاقياته على مقايسة كل عمل بمنافعه المادية والعيانية. وقد حذر نيتشه من استفحال النفس النفعي قائلا “في مستقبل ليس ببعيد، سنعلم جميعا أن مبدأ المنفعة كأي شيء آخر لم يكن غير شذرات من الخيال، ربما يكون غباء قاتلا سنهلك جمعيا بسببه”.

 على كل حال يعني جوليان بيندا بمصطلح المثقف من لا يسعى وراء المصالح الشخصية والمكاسب ويجد سعادته في ممارسة فن أو مزاولة البحث مع الترفع عن ملذات الحياة، وبالطبع إن فحوى هذا الكلام لا ينطبق على الأنموذج العميم في العالم المعاصر، لأن الوقائع قد اتخذت مسلكا مخالفا لما ذهب إليه ألبر كامو بأن التخفيف من غلواء الحضارة القاتلة يتطلب العودة إلى الروحية السقراطية للتساهل تجاه الآخرين والقسوة مع الذات، إذ إن التبجح صار من مظاهر الحياة الحديثة.

وما قاله المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عن ضرورة بحث المثقف واختياره لطريق يبتعد به عن السلطات المركزية ويقترب به من الهوامش ليس أقل فنتازية من رأي بيندا، فمن المؤكد أن المثقفين لا يستهويهم هذا المنطق الإنساني. لأن مهمتهم تعادل دور الإعلامي الذي يخبر عن عدد الضحايا أو تقلبات سوق الأسهم. وبما أن مدار الكلام عن المثقف يجب الإشارة إلى أن كون الإنسان منخرطا في قطاع الثقافة لا يعصمه من الزلات والأخطاء وما يمكن أن يستدل به تبيانا لهذه الحقيقة هو ما أورده الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه “دروس قرن من الحياة” عن انسياق طائفة من المثقفين لتسويق التوتاليتارية والتصفيق للمحاكمات الفاحشة التي طبعت العهد الستاليني.

ويأتي جوليان بيندا في مقدمة الأسماء المتورطة في الحملة، هذا فضلا عن رصد موران لظاهرة التحول من قناعة معينة إلى نقيضها في ميدان النضال الثقافي، فكان الزعيم الشيوعي جاك دوريو قد التحق بصفوف النازية كما أن الطبيب أندري موندوز قد أضفى الشرعية على الاغتيالات التي استهدفت أتباع المناضل الجزائري مصالي الحاج.

وغني عن التوضيح بأن الهم الأيديولوجي والسياسي هو ما يلقي بظلاله الثقيلة على الصراع بين المثقفين وليس التباين حول المبادرات الإنسانية فاصلا بين خطوطهم. لعل الخلاف بين ريمون أرون الذي صرح بأن الشيوعية هي أفيون المثقفين وصديقه اللدود سارتر المتيقن من أن الماركسية أفق لاغنى للعصر عنه وأن المناهض للشيوعية كلب، معلنا بلهجة تعبوية أنه لن يخرج منها إطلاقا، يشهد على صحة كلام مؤلف “لعبة المعنى” بأن المثقف يحاصر نفسه بنرجسيته وسوء تقديره لتأثير معتقداته الفكرية.

والجدير بالذكر في هذا المقام أن الانتماء إلى فكرة محددة قد لا يكون نابعا من قناعة بحتة بل التشدد والإفراط في الولاء هما نوع من الهروب، لذلك يعترف الشاعر الفرنسي بول إيلوار بأنه لولا الانضمام إلى الحزب الشيوعي لفتح صنبور الغاز. إلى الآن يستأثر المثقف الغربي لاسيما الفرنسي بالقسط الأوفر من الحديث، فماذا عن تجربة الجغرافيات الرازحة تحت طوق التبعية؟ بالتأكيد إذا كانت الصورة في المركز تبدو غرائبية فإن ما يقع عليه النظر في الأطراف لا يمكن إلا أن تطلق عليه مصطلح “العبث الفائق”.

12