نقطة التوافق في الكتابة الإبداعية

حالة البحث عن نقطة التوافق بين الإبداع والواقع، توثق العلاقة بين الإبداع والمتلقي، وتجعله أقرب إليه فكريا وجماليا، فيعيش معه، ولا يفارقه لحظة الانتهاء من القراءة.
السبت 2018/10/20
نقطة التوافق.. جنس روائي ذا تقنيات فريدة (لوحة: محمد الوهيبي)

في البدء أقول، إن مصطلح نقطة التوافق، مقتبس، أو بالأحرى اقتبسته من الكاتب اللاتيني خورخي لويس بورخيس إذْ جاء في أحد الحوارات معه، سؤال عن أصل الرواية البوليسية المعاصرة، ومن هو الكاتب الرائد في هذا النوع من أنواع الكتابة الأدبية؟ وكان له فضل البداية فيها، فشكلت بعده جنساً روائياً، ذا تقنيات فريدة، استقطبت مبدعين كباراً، عرفوا بكتابة الرواية البوليسية، مثل أغاثا كريستي وآرثر كونان دويل، مبتكر شخصية شرلوك هولمز، ومن الروائيين المتأخرين الروائي الأميركي دان براون، صاحب رواية شيفرة دافنشي والإيطالي أمبرتو إيكو، وبخاصة في روايته اسم الوردة، والياباني هيغاشينو وروايته الأكثر شهرة، خلاص قديس.

بل لقد دخلت تقنيات الرواية البوليسية في صميم الإبداع السردي وباتت تعتمد من قبل عدد كبير من الروائيين وكتّاب الروايات، حتى في حالة أن يكون النص الروائي لا يعد في الروايات البوليسية.

ويرى بورخيس، أن الكاتب الأميركي إدغار آلان بو، هو رائد الرواية البوليسية، حيث كتب “جريمة قتل في زقاق مورج” و”الرسالة المسروقة” و”الجعل الذهبي” ضمن أعمال خالدة أخرى، وبو، هو الذي ابتدع الشخص الذي يحل لغز الجريمة بوسائل تعتمد المنطق بناء على التفكير وعلى الحكي.

وكان بو، يعي أن القصة البوليسية أصلها غرائبي، إذْ يكتب في أميركا والمحقق في قصصه فرنسي، وأحداثها تدور في باريس، أي في مكان بعيد، لأنه كان بعرف إن الأحداث لو جرت في نيويورك سيسعى الناس إلى البحث عن نقطة التوافق، أي محاولة اكتشاف المكان والأشخاص في النص الروائي، ومدى تطابق النص الروائي بأحداثه وأشخاصه مع الواقع، مكاناً وأحداثاً وشخصيات.

وأرى أن بورخيس، على صواب في ما يتعلق بمواقف قرّاء كثيرين في البحث عن نقطة التوافق، وكنت قد أشرت منذ وقت بعيد إلى هذه الحالة في قراءاتي السردية، حين أكون على معرفة بالفضاء العام للرواية، مكاناً ومحيطاً اجتماعياً، إذْ طالما شغلني اكتشاف التطابق بين المكان الروائي بأحداثه وشخصياته، مع المكان الواقعي بجميع مفرداته المذكورة آنفاً، لذا حين كنت أتعرف على الكاتب شخصياً، أعيد قراءة نصوصه بفعل تطفل يقودني إلى محاولة معرفة التطابق بين فضاء الكتابة وفضاء الواقع.

إن ما وصفه بورخيس بنقطة التوافق، لا ينصرف إلى النص السردي فقط، بل يرافق في كثير من الأحيان، النص الشعري، فالشيخ محمود شاكر في كتابه “المتنبي” كتب مئات الصفحات ليثبت أن خولة، أخت سيف الدولة الحمداني، هي المرأة التي أحبها المتنبي في شعره، وأن الناقد عبدالجبار داود البصري، وبسبب معرفته الشخصية بالسياب ومعرفته بالفضاء المكاني والاجتماعي لقصائده، استمعت إليه وهو يحدد بكل ثقة من هي ابنة الجلبي في قصائد شناشيل ابنة الجلبي، ومن هي وفيقة في الواقع.

وأذكر، حين نشرت قصيدتي “إشراقات” وفي هذه القصيدة امرأة معشوقة، ظل أحد الكتاب من أصدقائي، يطارد القصيدة باحثاً عن نقطة التوافق، ليحدد أي امرأة في الواقع كانت هي امرأة قصيدة إشراقات.

قد يقول قائل، وما أهمية مثل هذا التوافق بين النص الإبداعي والواقع؟ وهو قول، لا أشك في موضوعيته، لكنه لا يحول دون رغبة كثيرين ممن قرأوا هذا النص الإبداعي أو ذاك، بدافع تطفل مشروع، في الوصول إلى نقطة التوافق، بل أستطيع القول، إن حالة البحث عن نقطة التوافق بين الإبداع والواقع، توثق العلاقة بين الإبداع والمتلقي، وتجعله أقرب إليه فكرياً وجمالياً، فيعيش معه، ولا يفارقه لحظة الانتهاء من القراءة.

14