نقابة المدرسين في تونس: عودة وعي أم مخاتلة

أظهر الكاتب العام لنقابة مدرسي التعليم الأساسي نبيل الهواشي أن “موعد العودة المدرسية من المواعيد الوطنية المقدسة ومقاطعة العودة لم تطرح في جدول أعمال الهيئة الإدارية”. هذا شيء مهم، ويمكن أن يوصف بالتحول في تصريحات نقابات التعليم بمختلف مستوياتها.
كان نقابيو هذا القطاع في السابق يتسابقون للإعلان عن وقف الدروس ليوم أو يومين أو ثلاثة، كأسهل طريقة نضالية، ويلقى الإضراب استجابة كبيرة تصل في سنوات ما بعد الثورة إلى مئة في المئة ليظهر ممثلو النقابات ويتفاخروا بـ”النجاح الكاسح” و”شعبية النقابة” و”التفاف” المدرسين من حولها.
لا يبدو الأمر كذلك الآن، وإلا كانت النقابة لوحت بمقاطعة العودة المدرسية كما سبق أن لوحت بمقاطعة الامتحانات الوطنية، وبالسنة البيضاء، واحتجاز النتائج. ثمة شيء ما تغير بشكل كبير يجعل النقابة تتخلى عن أسهل أشكال نضالها، والتي تلقى تجاوبا قل نظيره.
◙ تراجع نقابة الأساسي تحت الضغط يظهر مزاجا عاما سياسيا وشعبيا ضد التصعيد النقابي، خاصة أن الدولة لم تعد ضعيفة وهي مستنفرة لمواجهة أي مزايدات
لو على النقابيين ليس أسهل من الحصول على الرواتب دون عمل، فالأموال تأتي من الدولة، ولا تنقص شيئا سواء أضرب القطاع أو لم يضرب.
وإذا تجرأت حكومة على خصم يوم عمل تقوم الدنيا ولا تقعد فتضطر إلى التراجع وكأن شيئا لم يكن. وقطاع وافر من المدرسين يستمرئ الإضرابات وراحة البال والبدن، إلا قلة مبتلاة بالضمير الحي، فتجدها تتحايل لتعويض ساعات الإضراب المفروضة فرضا والتي يعني الخروج عنها كفرا بالنضال وتحديا لجنرالات النقابة الذين تخاف منهم الوزارة والحكومة ورئيس الدولة، فما بالك بمدرّسة أو مدرس يريد أن يقدم دروس تدارك وتعويض لتلاميذه.
هذه قصص من الماضي. الآن تغير الوضع كليا، فالوزير غير الوزير، ورئيس الدولة مختلف ودوره ليس صوريا، وهو يريد أن يتابع تفاصيل حياة الناس أولا بأول، وأكثر من ذلك فهو لا يقبل من أيّ شخص أو منظمة أو حزب أن يملي عليه شروطه، أو يهدده، أو يهدد حكومته، أو يربك مسار الدولة.
كانت النقابات التي دعمت مسار 25 يوليو 2021، وناصرت قيس سعيد، تعتقد أنها ستحظى بحفاوة أكبر مما كانت تحصل عليه في السابق باستعراض القوة والتخويف بالإضراب والاعتصام. دعمٌ تحت عنوان وضع الرئيس في الجيب، كما كان يحدث في السابق مع وزراء التربية الذين لا يتم تعيينهم ما لم ترض بهم النقابة وفي الغالب يكونون قريبين منها.
وقفت نقابة الأساسي على هذا التحول نهاية العام الدراسي حين تمسكت بحجب نتائج الامتحانات ومنعت الإدارة من الحصول عليها، وأعاقت عملية تقييم مستوى التلاميذ الذين لم يعرفوا أكانوا من الناجحين أم لا. كانت العملية نوعا من ليّ الذراع مع الوزارة. والنقابة كانت متيقنة من الانتصار في الأخيرة بسبب تقاليد السنوات العشر الماضية، لكنها فوجئت بوزير متحدّ أمهل المعرقلين بعض الوقت قبل أن يمرّ إلى العقوبات على المدراء والمدرسين.
وأعفت السلطات التونسية 350 مدير مدرسة من مناصبهم، وحجزت رواتب الآلاف من المدرسين على خلفية رفضهم تسليم نتائج الامتحانات. لم تجد النقابة من بد سوى التسليم بالأمر، ودعوة المدرسين الذين ظلوا في صفها إلى آخر وقت، ونسبتهم محدودة، بأن يسلموا النتائج.
وزير التربية نجح في معركة ليّ الذراع لأول مرة منذ 2011 بدعم من الحكومة ورئيس الدولة ومن الشارع التونسي، الذي كان يرى في “حجب الأعداد” أسلوبا لا يليق بنقابة بدلا من أن تبحث عن حقوق المدرسين رهنت مستقبل الآلاف من التلاميذ وتعدت على حقوق العائلات واستهدفت ضرب جهود سنة كاملة من الجهد والتعب.
ومع بداية العام الدراسي الجديد من المنطقي أن تقول النقابة إنها ضد المقاطعة، وإن الدروس خط أحمر، وهي تعرف أن التيار ليس في صالحها، وأن أيّ تصعيد سيعطي السلطة والإعلام والأولياء الفرصة ليهاجموها. ولذلك، فإن “النضال النقابي” يفرض عليها أن تناور، وأن تعلن التهدئة قبل أن يطالبها الخصوم بذلك.
ولذلك جاء كلام الهواشي، ومن ورائه موقف الهيئة الإدارية القطاعية، في اتجاه الطمأنة، وأن “قطاع التعليم الأساسي لا يسعى للتصعيد ولا للاستثمار في التوتر والتشنج”، وأن النقابة “في انتظار تحديد موعد مع وزارة التربية للجلوس إلى طاولة التفاوض والتباحث في مختلف القضايا بروح بناءة وإيجابية بهدف الوصول إلى حلول”.
من الصعب الحديث عن عودة وعي لأن ذلك يتطلب مراجعات من النقابة لمسار التصعيد في السنة الماضية، وبياناتها وتصريحات مسؤوليها دائما تحرص على إظهار المظلومية، وأن السلطة هي المسؤولة. لكنها في وضع يدعوها إلى التهدئة وتخفيف الخسائر إلى حين حل مشكلة الرواتب وتأمين عودة المدراء الموالين لها إلى مواقعهم ثم بعد ذلك قد تفكر في خيار آخر لن يكون بالتأكيد تصعيدا مطلقا، بسبب تغير موازين القوى، لكنه لن يكون تهدئة دائمة ما لم تقدم الوزارة “تنازلات” لإرضاء غرور النقابة وقيادتها.
وفي كل الحالات ليس ما قبل “حجب الأعداد” كما بعده. التغييرات لن تشمل موقف النقابة نفسها، وسيطول الأمر جزءا كبيرا من أنصارها الذين قبلوا بالتصعيد ووجدوا أن نقابتهم لا تقدر على حمايتهم، وأنه لم يعد بوسعها مراكمة مكاسبهم، ومن باب السلامة فينأون عنها حتى لا يكونوا عرضة لإجراءات عقابية قد تصل إلى حجب الرواتب أو التهديد بالعزل كما جاء في تلميحات وزير التربية في خضم الأزمة.
هذه التغييرات تحمل رسالة قوية لقيادة اتحاد الشغل ومفادها أن النقابة القوية التي كان الاتحاد يراهن عليها في الضغط على الحكومات لم تعد قادرة على رفع التحدي، خاصة بعدما فضلت نقابة التعليم الثانوي أن تقف في صف الوزير الجديد وتنأى بنفسها عن الصراع مع السلطة وفق أجندة خاصة بالحزب الذي تنتمي إليه قيادة النقابة.
تراجع نقابة الأساسي تحت الضغط يظهر مزاجا عاما سياسيا وشعبيا ضد التصعيد النقابي خاصة أن الدولة لم تعد ضعيفة وهي مستنفرة لمواجهة أيّ مزايدات.
◙ مع بداية العام الدراسي الجديد من المنطقي أن تقول النقابة إنها ضد المقاطعة، وإن الدروس خط أحمر، وهي تعرف أن التيار ليس في صالحها
وإذا نفّذ اتحاد الشغل تهديداته بالتصعيد بالتزامن مع العودة المدرسية والجامعية فسيجد نفسه معزولا، خاصة أن ورقته الرئيسية، أي النقابيين، باتت محدودة التأثير في ظل غياب الحماس للتصعيد والمخاوف من أن ترد الدولة الفعل، والأهم أن النقابات صارت منقسمة من الداخل وتشقها الخلافات بسبب القرب من السلطة أو الابتعاد عنها لاختلاف أجندات المجموعات السياسية التي تحركها من وراء الستار.
وليس مستبعدا أن يختار اتحاد الشغل المسار الذي اختارته نقابة الأساسي، أي التهدئة المؤقتة بانتظار قراءة مجريات الأحداث خاصة أن السلطة ترفض أيّ حوار مع الاتحاد خارج دوره التقليدي، أي التفاوض مع الوزارات بشكل مباشر، وترفض أيّ دور سياسي يمكن أن يلعبه في صفها أو في صف المعارضة، وأيّ خطوة بالتصعيد ربما تكسر علاقته مع السلطة بشكل نهائي.
نقطة قوة السلطة أن معها مزاجا شعبيا ضد التصعيد حتى من بوابة الدفاع عن “المقدرة الشرائية”، كما جاء في التصريحات الأخيرة للأمين العام للاتحاد نورالدين الطبوبي. أخطاء السنوات العشر الماضية أثّرت على صورة الاتحاد كما على صورة الأحزاب.
التونسيون ليسوا ضد النقابة في المطلق، ولكنهم يعارضون هذا الصلف الذي يجعل من مهمة النقابة فرض الأمر الواقع على حكومة تدور من مكان إلى آخر لجمع الأموال لتحريك الاقتصاد والاستثمار وتوفير مواطن الشغل، فتجد نفسها مجبرة على تحويل ذلك الجهد إلى زيادات في الأجور غير مبررة وغير مقنعة ولا يتحملها الاقتصاد.
هزيمة نقابة التعليم فرصة لوقف التيار النقابي الجارف الذي هز البلاد ما بعد 2011، ودفع إلى إرباك الدولة والقطاع الخاص، وزاد شكوك المستثمرين التونسيين والأجانب في مناخ العمل بتونس في ظل موجة المطالب وإجبار المؤسسات على زيادة الأجور والعلاوات أيا كان وضعها المالي رابحة أم خاسرة.