نعيم ميا لـ"العرب": الشّعر نهجُ حياة مترفة بالجمال والإنسانيّة يترجمه سلوك وكلمات

في عالم الشعر، هناك أصوات لا تكتفي بالكلمات بل تُحلق بها نحو المعنى والوجدان، ومن بين هذه الأصوات يبرز اسم الشاعر السوري نعيم علي ميا، الذي خطّ لنفسه مسارًا شعريًا يلامس القلوب ويستفزّ الفكر. شاعر ينتمي إلى الأرض والإنسان، ويكتب من نبض الواقع ولغة الإحساس، جامعًا بين التراث الشعري الأصيل وروح الحداثة، في هذا اللقاء، نفتح معه أبواب الحديث عن بداياته، ورؤيته للشعر، وموقفه من أهم القضايا.
في الشّعر والنّثر ما يزال همّ الشاعر السوري نعيم ميا المُؤرّق، أنْ يصل إلى الضّفّة الثّانية من النّهر كي يستريح ويستمتع ويتلذذ بالحياة وما حباه الله من نعمة الوجود في العالم الموجود. في كتاب “مشروع مُفكّر” النّثريّ، تناول قضايا إنسانيّة مجتمعيّة، وفي كتاب “بوح شوق” هناك قصائد نثريّة أثارت قضيّة الرّوحانيّة الصّوفيّة، الّتي تأخذ الإنسان إلى عالم من الصّفاء الفكريّ والنّقاء الرّوحي، وفي كتابيه “تُسافرين في مدار مُقلتي” و”لوجهكِ يَرهجُ ضوءُ النّهار” الشّعريين حيث شعر التّفعيلة، فقد كتبهما مُخاطباً الإنسان عامّة والأنثى خاصّة، أفضى في بوحه مُعبّراً عن حالة من الوَجد الأبديّ.
أمّا في كتاب “بعض الّذي” النّثريّ، فقد وجهّ مضمونه إلى الذّات الّتي يؤرّقها الهمّ الحياتيّ المجتمعيّ وقد عصفت به الحياة المادّيّة، ودعا من خلاله إلى مفصليّة جدّا مهمّة ألا وهي (أينَ أنتَ الآن – الهزيمة قرار – أفكار علّها تَلْقى التّفكير).
تأثر واضح بسوريا
عن بدايته وأول قصيدة كتبها، يقول ميا لـ”العرب”، إن “الحديث عنِ البدايات لا بدّ مِنَ الاعتراف والإشارة فيه إلى أنّ الشّعر مثل الحبّ يأتي بلا موعد، وهنا أُشير إلى أنّ الحياة لا تعني الولادة، ثمّة علاقة وثيقة بين الشّاعر والحياة، فكثيرة هي الأوقات الّتي تأخذ الشّاعر إلى زمان ومكان مختلفين عنه وهذا ما نسميّه الخيال الأدبيّ، وأمّا عن أوّل قصيدة كتبتها، لا يُمكن أنْ نقول إنّ الخطوة الأولى تعني المسيرة، فقد كانت محاولة لكنّها كانت مليئة بالجمال وقد جعلتني أعيش السّعادة بأنّني استطعتُ أنْ أُترجمَ بعض ما في نفسي وأقول ما أُريد.”
ويعتبر الشاعر أن التأثير الأكبر على تكوينه الأدبي وفق رؤيته وأثر البيئة السورية الّتي ترجمتها في كلّ ما كتب ويقول: “لا يمكن لأحد أنْ يقول أنّه تأثَّر بشخص دون سواه لطالما كانت الكتابة أشبه بالنّهر الّذي يجري فتنعكس عليه طبيعة المكان واختلاف الزّمان، فالكتابة موهبة من الله عزّ وجلّ وصقلٌ عبر المتابعة في القراءة والاطّلاع على تجارب الآخرين، وهذا بدوره يُؤكّد أنّ التّكوين الأدبيّ هو تأثُّر أكثر منه تقليد أو مسْلَك نسلكه، والتّأثُّر مستمرّ باستمرار القراءة والكتابة.”
ويضيف: “هذا السّؤال يأخذني إلى حيث البيئة السّوريّة السّاحليّة الّتي تسكنني بقدر ما أسكنها والّتي حباها الله طبيعة جميلة وكأنّي أرى فيها لوحة أُحاكي من خلال بعض الكتابات جمالها وسحرها.. وأنتَ تعرف أنّ الإبداع يكمن في التّفاصيل، وهذه نعمةٌ من الله عزّ وجلّ أنْ جعلني ابن الطّبيعة السّاحرة فكانت كلماتي انعكاسا لها وأشعاري بعض من هذا الجمال.”
وسألته “العرب” عن الدور الذي يلعبه الشعر في حياته فأجاب: “الشّعر حالةٌ تَفوقُ الحديث والتّعريف، ولا أُبالغ إذ قلتُ إنّ الشّعر نهجُ حياةٍ مترفة بالجمال والإنسانيّة والانسيابيّة وترجمةٌ من خلال سلوك وكلمات، إذ كيف لكَ أنْ تسأل الفراشات عن سرّ بهائها وجمالها، وكيف لكَ أنْ تسأل قوس قزح عن سرّ ضيائه وطاقته الإيجابيّة الّتي يبثّها فينا إذا ما رأيناه، هذا هو الشّعر حالة تعيشها وتعيشك لتصبح أنتَ القصيدة والكلمات دونما قصد ولا اختلاق.”
ويذكر أن “الشّاعر ابن المجتمع والبيئة، والشّعر أحد الفنون الأساسيّة في الحياة الجميلة المثاليّة الّتي نسعى لنعيشها بكلّ ما فيها من سحرٍ وفتنة وجمال، وإذا كان الشّعر يُعبّر فهو يُعبّر عن الأجمل الممكن والأحلى الممكن والأفضل الممكن، وبذا يكون الشّعر كلّ ما سألتَ عنه بطريقة أو بأخرى.”
وعن علاقة الشاعر بالمجتمع وهمومه، قال إن “الأمر ببساطة متناهية أنّ الشّاعر قد خصّه الله بحساسيّة – قد يراها البعض مُفرطة – أظنّها تجعله في مقدّمة المسؤولين عن تطوّر المجتمع وتغييره، من خلال تحمّله المسؤوليّة المُلقاة عليه إنسانيّا ومجتمعيّا، فهل من المعقول أنْ يعيش الشّاعر بعيدا عن أبناء مجتمعه ومحيطه؟ لا أظنّ أنّ الشاعر يجد نفسه في وحدته وعزلته، الشّاعر للمجتمع، للخير، للحقّ، للجمال، وكلّ ما يؤرّق أبناء مجتمعه بالضّرورة هو مؤرّق للشّاعر.”
البعض يرى أن القصيدة قلعة الشّاعر الدّائمة الّتي يحتمي فيها وبها، بينما يرى آخرون أنها نافذة يُطلّ منها على أشيائه السّرّيّة والحميمة ورسالته للعالم
لكلّ شاعر نبرة شعرية خاصّة، لذلك سألناه كيف يصف بصمته الشّعريّة؟ فأجاب: “هذا السّؤال دعني أُحيله إلى القارئ الّذي يستطيع أنْ يدلو بدلوه أكثر منّي، أمّا إذا أردتَ أنْ أقولَ لحضرتكَ فإنّي أقول: نبرتي هي زقزقة العصافير في صبحٍ مُنتظَر بعد ليل طويلٍ من المطر، وبصمتي هي لمسة فراشة لأوراق الورد في ربيعٍ سماؤه تزينه الزّرقة الصّافية والطّيور الحائرة أين تحطّ وتستقرّ ففي كلّ تفصيلٍ روعة وجمال ومستقرّ.”
أما عن ميله إلى الكلاسيكيّة أم التّجريب في كتاباته ولماذا، فأوضح لـ”العرب”: “سأقول بكل صراحة، كتبتُ في كليهما، أمّا مَيلي فإنّي إلى التّجريب أكثر مَيْلاً وقُربا، فالكلاسيكيّة نمط له سحره وجماله ووقعه في الأذن لدرجة أنّ المستمع قد اعتاد الموسيقى وألِفها لدرجة أنّه بات قادراً على الوقوف على القافية حتى قبل نطق الشّاعر بها، وأمّا الحديث فله سحره غير المتوقَّع وله ثقافته وفلسفته ويحتاج إلى سعة إطّلاع لاسيّما إذا أراد الشّاعر أنْ يكتب برمزيّة غير مألوفة لكثير من جمهور الكلاسيكيّة.”
وأضاف: “منذُ القديم كان وما يزال للشّعر جمهوره، ولأمسياته متابعوه، فالمتابع للشّعر نخبويّ بامتياز لأسباب كثيرة أهمّها أنّ الشّعر لغة تكثيف، وتصوير، وابتكار في الخلق والإبداع، وعلى المُتابع أنْ يَلْحق بركب الشّاعر المُحلّق في فضاءات اللغة وتكثيفها وسحرها وألقها، وأمّا العزوف عن القراءة فشأنٌ آخر وهو ما لا أتّفق مع الرّأي القائل بأنّ هناك عزوفا عن القراءة، وأقول: تغيّرتْ طريقة القراءة وآليتها ولم تنعدم وكذا آلة الكتابة ووسائلها.”
وعن رأيه في الشّعر العربيّ الحديث، وهل ما زال يحتفظ بقوّته وجماليّاته وكيف يقيم حضوره في المشهد الأدبي السوري والعربي؟ قال إنّ “الشّعر حالة منفردة ومتفرّدة عن بقيّة الفنون، له وقعُه وجماليّته، وهذا لم يكن وليدَ سنوات قليلة، فتاريخ الشّعر طويل، وقد أصابه ما أصاب المجتمع من هنّات وضعف حينا، وقوّة ورصانة حينا آخر، وذلك لأنّ الآداب بمجملها تزدهر بازدهار الحياة ورخائها وتضعف بضعفها، وللأمانة ليس من السّهل أنْ يُزاحم الشّعر الحديث الشّعر الكلاسيكيّ التّقليديّ، ويُخطئ البعض عندما يقول الشّعر الحديث بلا موسيقى، والحقّ أقول: موسيقى الشّعر الكلاسيكيّ داخليّة وخارجيّة، وموسيقى الشّعر الحديث داخليّة أكثر منها خارجيّة على الرّغم من وجودها.”
وأضاف: “حول تقييم حضوري في المشهد الأدبي هذا أمرٌ آخر أتركُه للمُتابع في تقييمه، إذ لا بدّ للشّاعر من جمهور يُقرّ بشعريّته وشاعريّته، وإلّا فنحن في مشكلة.”
جمهور نخبويّ
لدى سؤالنا عن أثر الأحداث في سوريا على قصائده، وهل للشّاعر دور في الأزمات؟ قال لـ”العرب”: “طبعاً لا يمكن أنْ ينسلخ الشّاعر عن بيئته وأحداث محيطه، ومن الأكيد أنْ يتأثّر الشّعر بما يقع على أمّته من مِحَن، فمِن المُحزن للشّاعر أنْ يرى الورد يحترق، والعصافير تهجر السّماء، وأنّ السّنونو ما عاد يأتي بلاده، ومن المؤلم أنْ أشتم روائح البارود بدل شذا الورود، ولكنّني كنتُ وما زلتُ على يقينٍ بأنّ الحياة أقوى من الموت، وأنّ العَمار أقوى من الدّمار وأهمّ، ومن هنا أستحضر دور الأخوين رحباني كيف استطاعا أنْ يعيشا الحياة في وسط الموت، وكيف ترجما حبّهما للحياة من خلال الكلمة واللحن والصّوت، هذا هو دور الأديب، أنْ يرى الحياة ويعيشها ويبثّها أبدا.”
وأضاف: “للشّعر جمهور نخبويّ، ومن البديهيّ أنّ التّغيير في المجتمعات إنّما يقوم على النُّخَب، وهذا الكلام لا أعتقد أنّه ينسجم والواقع العربيّ، فالمجتمعات العربيّة شعوبُها مُغيَّبة عن الفعل والتّأثير في سيرورة الحياة وصيرورتها، وإذا قصدتَ الشّعر فإنّي أراه قد أدّى وظيفةً جيّدة في مرحلة النّهوض القوميّ والدّعوة إلى الاستقلال، ولكن بعدها ما عاد له دور، شأنُه شأن بقيّة الفنون في مجتمعاتنا العربيّة.”
أما عن القصيدة الأقرب إلى قلبك، ولماذا قال: “كم هو صعب أنْ تُجيب على سؤال أيّ الأبناء أحبّ إلى قلبك؟! وكذا هو سؤالك أستاذ عُمَر المحترم، فكلُّهم لي وأنا لهم، وكلُّهم بي وأنا بهم، وما أجمل أنْ يُنسَب الشّاعر إلى قصيدة هنا وأخرى هناك، وهذا حالي مع كلّ ما كتبتُ، أُكنّى بواحدة هنا، وواحدة هناك، وما أحلاه التّكنّي.”
وسألنا الشاعر هل فكّرت في التّوجّه إلى الكتابة السّرديّة أو الرّواية فأجاب: “ثمّة شيءٌ مشترك بين الكتابة الشّعريّة والكتابة السّرديّة الرّوائيّة ألا وهو الهدف والغاية، وإن اختلفتِ الطّرق، فطريق السّرد العقل، وطريق الشّعر العاطفة، وطريق الشّعر صعب مكثّف، وطريق الرّواية سهل بسيط وفي كليهما روعة وجمال، والشّاعر إذا كتب سرداً أفاض في السّرد الشّعري والوصف، وهذا قد يضرّ بالمُنتَج ويُتعب القارئ، وجميل أنْ أخوض التّجربة.”
يرى البعض أن القصيدة قلعة الشّاعر الدّائمة الّتي يحتمي فيها وبها، بينما يرى آخرون أنها نافذة يُطلّ منها على أشيائه السّرّيّة والحميمة ورسالته للعالم، أما ميا فيتساءل: “هل من المعقول أنْ تحبس الفراشة نفسها، أو أنْ نُقيّد العصفور ونجعله يُقيم في قفص؟ لا أظنّ أنّ الشّاعر يحتاج إلى قلعة كي يحتمي ومن أي شيء يحتمي؟ ورسالتي: أنْ نحترم أنّنا متساوون في الخلق والإنسانيّة، وحريٌّ بنا أنْ نعيش مع بعض وأنْ نعترف بخصوصيّة الآخر ومغايرته لنا في هذا العالم الرّحيب، وأنْ يزرع كلٌّ منّا نفسه بالقول والفعل ليحصده الآخر عطاءً، وأنْ نؤمنَ بدور الكلمة وأهمّيّتها في مدّ جسور الثّقة.”
أما عن حضور المرأة في قصائده، يقول ميا لـ”العرب”: “المرأة كائنٌ إنسانيّ جميل خُلق زينةً للدّنيا وعوناً للرّجل في حياته، فهي سبب القصيدة بل هي القصيدةُ ذاتُها وكلُّها، ولا شعر بلا امرأة، ولا موسيقا شعريّة ما لم تكن المرأة السّلّم الموسيقيّ لها، المرأة قوس قزح والطّيف بجماله، المرأة عنوان الشّعر والسّهر حيث أنوار القمر الّذي يُدغدغ أوراق الشّجر وليالي السّمر، وهي أكثر وأكثر.”