نظرة تحليلية نقدية لنتائج مسابقة مهرجان فينيسيا الـ74

جاءت نتائج مسابقة الدورة الـ74 من مهرجان فينيسيا السينمائي الذي يعد أقدم تظاهرة من نوعها في العالم، موفقة إلى حد كبير، دون أن تخلو كالعادة من بعض التوازنات التقليدية.
الثلاثاء 2017/09/12
لقطة من الفيلم الأميركي \"شكل الماء\" الفائز بجائزة الأسد الذهبي

كنا قد توقعنا ألا تخرج جائزة الأسد الذهبي عن الأفلام الأميركية المشاركة في مسابقة الدورة الـ74 من مهرجان فينيسيا السينمائي، ليس فقط بحكم عددها الكبير (8 أفلام) بل لتميز مستواها الفني، وقد منحت لجنة التحكيم الدولية، برئاسة الممثلة الأميركية أنيت بيننغ، الجائزة لفيلم “شكل الماء” Shape of Water من إخراج المخرج المكسيكي غوليرمو ديلتورو وبطولة سالي فيلد ودوغ جونز.

ويستحق الفيلم الجائزة دون شك، فهو أحد أفضل ما عرض من أفلام في المسابقة التي شملت 21 فيلما، وكنت قد وصفته في مقال سابق بأنه “ينتمي دون شك إلى تيار ما بعد الحداثة، فهو يتميز بالجمع بين الأساليب الفنية المختلفة، ومحاكاة مشاهد من أفلام شهيرة، أي أنه تجسيد نموذجي لما يعرف في فن ما بعد الحداثة بالـpastiche“.

فوكستروت

الجائزة التالية مباشرة في أهميتها لجائزة الأسد الذهبي وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، منحت عن جدارة واستحقاق لفيلم “فوكستروت” Foxtrot للمخرج الإسرائيلي صامويل ماعوز ومن الإنتاج المشترك مع ألمانيا وفرنسا وسويسرا.

وكان الفيلم من بين أربعة أفلام رشحها معظم النقاد -ومنهم كاتب هذه السطور- للفوز بجائزة الأسد الذهبي وقد رأيت أنه فيلم معاد للحرب وللنزعة العسكرية الإسرائيلية بشكل عام، يتجاوز كثيرا في مستواه الفيلم الأول لنفس المخرج أي فيلم “لبنان” الفائز بجائزة الأسد الذهبي عام 2009، على مستوى الشكل والخيال الفني، والقدرة على الابتكار، والتصوير المدهش لموضوعه من خلال مزيج من السخرية السوداء، والعبث المجنون، والهجاء الحاد للمؤسسة العسكرية، منتقلا من الأسلوب الواقعي الصارم إلى أسلوب ما بعد الحداثة.

جائزة أحسن ممثلة حصلت عليها البريطانية شارلوت رامبلنغ عن دورها في فيلم “حنا” للمخرج الإيطالي أندريا بالاورو وفيه تقوم بدور سيدة متقدمة في العمر

جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج حصل عليها المخرج الفرنسي زافييه لوغران عن فيلم “تحت التحفظ”، أحد ثلاثة أفلام فرنسية متوسطة المستوى عرضت في المسابقة.

أما جائزة أحسن سيناريو فذهبت للفيلم الأميركي “ثلاث لوحات خارج أيبنغ، ميسوري” وهو الفيلم الذي تصدر ترشيحات النقاد لجائزة “الأسد الذهبي” منذ عرضه في المسابقة إلى اختتام المهرجان، لكن لجنة التحكيم فضلت “شكل الماء” عليه وهو بلا شك أكثر طموحا من الناحية الفنية، لكن “ثلاث لوحات” (صاحب أطول عنوان لفيلم في المهرجان) عمل يجمع بين المتعة والفن، وكنت قد وصفته في مقال سابق في “العرب” بأنه كوميديا سوداء ساخرة تندلع من داخل التراجيديا، تمتلئ بالعنف واللعنات التي تصبها الشرطة على الناس ويصبها الناس على الشرطة.

وفيما بين الطرفين، تسود أجواء التشكك وانعدام الثقة والرغبة في الانتقام، مع الخروج الفظ على القانون، هذه هي صورة أميركا المعاصرة كما يعكسها هذا الفيلم الممتع الذي يجعلك تضحك على ما تشاهده من شخصيات ذات ملامح كاريكاتيرية تتصرف بجنون وقسوة تتجاوز كل الحدود، لكن دون أن يجعلك الفيلم تبتعد عن المقارنة الذهنية بين ما تشاهده وما يحدث على أرض الواقع في أميركا اليوم.

جائزة أحسن ممثلة حصلت عليها البريطانية شارلوت رامبلنغ (71 سنة) عن دورها في فيلم “حنا” للمخرج الإيطالي أندريا بالاورو (إنتاج مشترك فرنسي إيطالي بلجيكي) وفيه تقوم بدور سيدة متقدمة في العمر (تبدو رامبلنغ في الفيلم أكبر كثيرا من عمرها الحقيقي).. يتم القبض على زوجها دون سبب واضح، ثم ينفضّ عنها الأهل والأصدقاء، فتحاول استرجاع مسيرة حياتها، تعاني من الوحدة الشديدة ثم تنعزل، تستغني عن كلبها، وتستعد لمواجهة الموت.

الأداء مؤثر دون شك، لكن رأيي الشخصي أن الجائزة كان يجب أن تذهب إلى الأميركية فرنسيس ماكدورماند عن دورها البارز في فيلم “ثلاث لوحات…” فحضورها في الفيلم أكثر حيوية وتقلبا في الأداء كما أن الفيلم نفسه ممتع وجذاب على العكس من فيلم “حنا” القاتم، ذي الإيقاع الرتيب إضافة إلى وجود الكثير من الأشياء الغامضة في بنائه الفني.

وربما لتحقيق نوع من التوازن منحت اللجنة جائزة أحسن ممثل للممثل الفلسطيني كامل الباشا عن دوره في الفيلم اللبناني (من التمويل الفرنسي) “الإهانة” (أو “القضية رقم 23”) للمخرج زياد دويري.

ولا شك أن الجائزة مستحقة تماما، وقد تألق الباشا بالفعل في أداء الدور أمام منافس كبير له في الفيلم نفسه، هو الممثل اللبناني عادل كرم في دور خصمه اللدود “توني”، وكنت أتوقع أيضا أن ينال كرم الجائزة، ورغم أنني استبعدت فوز الفيلم نفسه بجائزة رئيسية، لكني أشرت إلى تميز التمثيل فيه بدرجة ملفتة.

ويقوم الباشا بدور عامل فلسطيني يشتبك لفظيا مع لبناني مسيحي من المنتمين إلى حزب القوات اللبنانية، وهو من المتعصبين المتشددين في رفضهم الوجود الفلسطيني في لبنان، ثم كيف تتصاعد المشاجرة لتصل إلى القضاء مع تداعيات سياسية صاخبة في الشارع.

المخرج المكسيكي جوليرمو ديلتور يحمل جائزة الأسد الذهبي

بلد حلو

حصل الفيلم الأسترالي “بلد حلو” Sweet Country للمخرج واريك ثورنتون، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة (وهي جائزة ثانوية قياسا إلى الجائزة الكبرى للجنة التحكيم).

والفيلم يتناول موضوع العنصرية من خلال أسلوب وشكل فيلم “الويسترن” الأميركي، بتركيز خاص على اضطهاد وتسخير واستعباد السكان الأصليين في أستراليا في عشرينات القرن العشرين من قبل ملاك الأراضي وحماتهم، مع الكثير من الإسقاطات المعاصرة.

جائزة مارشيللو ماستروياني لأفضل ممثل شاب واعد ذهبت عن استحقاق إلى الممثل الأميركي الشاب شارلي بلومر الذي قام بدور “شارلي” في الفيلم الممتع “لين أون بيت”، وفيه يقوم بدور فتى مراهق وحيد يرتبط بصداقة مع الحصان “بيت” الذي يرغب صاحبه في التخلص منه، فيسرقه شارلي ويهرب به لإنقاذه من مصيره، ثم يخوض مغامرة طويلة تحفل بالكثير من المخاطر.

من الأفلام التي ربما تكون قد تعرضت لظلم من نوع ما، بعد أن تجاهلتها تماما لجنة التحكيم، الفيلم الأميركي الكبير “سابيربيكون” إخراج جورج كلوني، الذي تشيع فيه أجواء العبث التي تتميز بها أفلام الأخوين كوين (كاتبا سيناريو الفيلم) مع تعليق سياسي ساخر معاصر عن العنصرية الأميركية الدفينة، من خلال كوميديا سوداء.

بوجه عام تثبت مسابقة هذا العام أن الفيلم الأميركي لا يزال قادرا على تجديد نفسه وتطوير أساليبه الفنية بالاستعانة بمخرجين من بلدان أخرى (المكسيك وبريطانيا… إلخ) مع الانفتاح الكبير على الأشكال والرؤى الفنية المختلفة التي ترتبط بـ”سينما المؤلف”، من دون التخلي في الوقت نفسه عن رواية قصة ممتعة في سياق واضح.

وهو ما أجده شخصيا مفقودا -على سبيل المثال- في الكثير من الأفلام الفرنسية والإيطالية التي تميل عادة إلى الافتعال والتحذلق وتكتفي بتصوير الأجواء العامة المحيطة بالموضوع، مع غياب الموضوع نفسه، وافتقاد التماسك الفني والسياق القصصي، وهو على سبيل المثال ما يعاني منه الفيلم الفرنسي المترهل “مكتوب يا حبيبي” للمخرج التونسي عبداللطيف كشيش الذي خرج من سباق الجوائز في فينيسيا دون أي جائزة كما توقعنا.

ناقد سينمائي مصري

16