"نشيد الفرح" مغامرة موسيقية تجمع عالمين مختلفين كليا

"المزود" التونسي ليس مجرد آلة يكرهها المتشددون.
الثلاثاء 2022/07/26
ثنائي يجتمع للمرة الأولى

رغم التضييقات الكثيرة التي تعرض لها لعقود طويلة، فإن فن المزود الشعبي التونسي تمكن من أن يصبح تراثا شعبيا، وتمكن بعض فنانيه من أن يتحولوا إلى أيقونات يرافق الحنين كل ظهور لهم. ووعيا بأهمية هذا التراث وفي محاولة لفتح آفاق جديدة أمامه قدم الموسيقي التونسي شادي الڤرفي عرضا جديدا يجمع بين الموسيقى الأوركسترالية والمزود في مزيج خارج عن المألوف.

شهد مهرجان الحمامات الدولي تجربة موسيقية فريدة قدمها الموسيقي شادي الڤرفي بدمج عالمين موسيقيين مختلفين كليا هما الموسيقى الكلاسيكية والأوركسترالية بأغاني “المزود” (آلة نفخ) الشعبية التونسية، في عرض بعنوان “نشيد الفرح”.

وأدى أغاني الحفل اثنان من رموز الفن الشعبي التونسي هما صالح الفرزيط وفوزي بن قمرة، اللذان أديا عددا من أغانيهما القديمة التي تعود إلى فترة ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، وسط تفاعل كبير من الجمهور الذي امتلأت بهم مدارج المسرح المكشوف.

عالمان متباعدان

عالمان مختلفان تماما جمعهما الڤرفي في حفله "نشيد الفرح" عالمان بكل ما يحملانه من خصوصيات ثقافية وجمالية

عالمان مختلفان تماما جمعهما الڤرفي في حفله “نشيد الفرح” عالمان بكل ما يحملانه من خصوصيات ثقافية وجمالية وحتى في جمهور كل منهما، إذ غالبا ما يكون جمهور الموسيقى الكلاسيكية نخبويا فيما أغاني المزود لها شعبيتها وجمهورها العريض من عموم التونسيين.

انطلق الحفل بأداء النشيد الوطني وكانت فكرة طيبة، أدخلت الجمهور في جو من الحماسة، لكن وللإشارة فإن الحضور في جزء كبير منهم لم يكونوا على علم بأن الحفل دمج بين الموسيقى الكلاسيكية والمزود، واستقطبهم اسما الفنانين بن قمرة والفرزيط، منتظرين سهرة للأغاني الشعبية، وهو ما بدا واضحا في معظم فترات الحفل بمطالبات من هنا وهناك إلى عودة آلة المزود بدل الآلات النحاسية والقيتار والبيانو والكمنجات وحتى جوقة الكورال.

الفكرة كانت مغامرة تحسب للمايسترو، لكن نجاح الدمج من عدمه يناقش، إذ نجحت بعض المقطوعات خاصة من أغاني فوزي بن قمرة الذي يعتبر منذ التسعينات مجددا في فن المزود بإدخاله آلات جديدة له مثل الأورغ والقيتار الإلكتروني، ولكن بدت أغان أخرى نافرة خاصة مع صوت آلة المزود القوي والحاد والمرتبط أساسا بأجواء الأحياء الشعبية المشحونة التي كانت في التسعينات ومطلع الألفية الثالثة لسانها الفني الأوحد.

موسيقى مختلفة كليا
موسيقى مختلفة كليا

التنافر عادي ومنطقي لكن في المجمل وجدنا أنفسنا أمام تصورات جديدة وإعادة توزيع مختلفة للأغاني تحررها من إيقاعها السريع وتستقطبها إلى عالم أكثر هدوءا ورصانة، وقد تمكنت الموسيقى من التغطية مثلا على ضعف أداء الفرزيط في بعض أغانيه وهو أمر مفهوم إذا أخذنا في الاعتبار معطى تقدمه في العمر.

نجح الڤرفي في خلق أداء ثنائي بين بن قمرة والفرزيط وهو مشهد نادر في عالم الفن الشعبي، المليء بالمشاحنات والخصومات والصراعات، وهو ما يحسب للمايسترو، لكن ربما كان عليه الاستعانة ببعض الطاقات الشبابية، أو التنويع أكثر في فناني المزود، خاصة من الشباب المختلفين عن الأجيال السابقة، خاصة من ناحية التكوين الموسيقي، وتحرر الفن الشعبي من الفطرة إلى أن يصبح دراسة لها أصولها الموسيقية.

ويبقى أن نشيد بهذه التجربة وندعو إلى الاشتغال أكثر على فتح آفاق أمام الفنون الشعبية الهامة التي تزخر بها تونس، والاشتغال أكثر على تطويرها وتثمينها، إذ لا يخفى على أحد حالة الفراغ التي تعيشها الموسيقى التونسية، لا من باب غياب المواهب، وإنما من باب القطيعة مع الجماهير والهوة التي باتت تتسع ليملأها أصحاب أغاني الراب وذلك موضوع آخر.

ليست مجرد أغان

Thumbnail

المزود ليس مجرد آلة نفخ، إنه آلة استثنائية، تتميز بها تونس عن كل جيرانها وعن مختلف الأقطار الأخرى، آلة في تشكلها من القصب وقرون الثيران وجلد الماعز والقصب لها امتداد غارق في عمق التاريخ التونسي، وفي خفاياه البعيدة.

لسنا بصدد التأريخ لآلة، وإنما نستذكر حضور أغاني المزود على الصعيدين الاجتماعي والسياسي مثلا، إذ ترافق هذه الآلة وأغانيها جل حفلات الأعراس التونسية إلى اليوم، لها طقوسها الحاضرة والراسخة، سواء في الآلات الإيقاعية التي تصاحبها، أو الرقصات التي تؤدى على أنغامها المشحونة.

أصوات مطربي أغاني المزود لها طابع خاص، إذ لهذه الموسيقى مساحات صوتية مختلفة في تقلصها وامتدادها وفق طابع تونسي بحت، ما يجعل من المؤدين في أغلبهم أصحاب أصوات رخيمة، ولها قدرة على اللعب ببراعة بين الجواب والقرار، فيما تحافظ على ذكورتها، إذ المزود أغان ذكورية بالأساس.

ولا نقصد بالأغاني الذكورية أنها تغفل عوالم النساء، بل المرأة حاضرة بقوة في أغاني المزود، كحبيبة وأمّ وأخت، لها صورة سلبية أحيانا وأخرى إيجابية، من ناحية أخرى تتناول أغاني المزود أحزان الطبقات المهمشة والمنسية وآمالها، فتغلب عليها الشكوى والدعاء وغيرها.

أغاني المزود هي في النهاية تعبيرات ثقافية لها خصوصيتها التونسية الصرفة وقد واجهت الكثير من التضييقات

ولطالما كانت السجون مناخا مناسبا لولادة الكثير من أغاني المزود، بما فيها من عتاب وتوبة وندم وتوق إلى الحرية، والتوق إلى الحرية نفسه هو ما جعل الكثير من المغنين الشعبيين ينقدون النظام السياسي والاجتماعي، إذ لا سلطان على أصواتهم التي هي أصوات الأحياء الشعبية الغارقة في الإهمال والفقر والجريمة والآمال المحطمة. ولذا كانت أغاني المزود في الضفة المقابلة للنظام، إلى أن تبنى النظام نفسه بعض فنانيها وحولهم إلى أدوات في يده، بينما بقي المتمردون في الهامش.

إذن أغاني المزود هي في النهاية تعبيرات ثقافية لها خصوصيتها التونسية الصرفة، وحتى وإن واجهتها الطبقات البرجوازية والبرجوازيات الصغيرة الواهمة بنوع من الاحتقار، فإنها قاومت وظلت راسخة في وجدان جل التونسيين، لكن يبقى أنها اليوم تواجه نوعا من الرتابة بغياب أجيال من المؤسسين وإغراق بعض الشباب في التجريب إلى درجة إلغاء آلة المزود الأساسية.

وهذه الآلة للمناسبة هي الأولى التي يكرهها المتشددون والإخوان في تونس ويعتبرونها “مزمار الشيطان”، لأنها تقترن بالشخصية التونسية المركبة، الملتزمة في جوانب والمنفتحة على الحياة والرقص والمرح، إذ غالبا ما يرتبط هذا الفن الشعبي باحتساء الخمر والرقصات التي لو حلّلناها لوحدها لفهمنا اندماج الحركات الأنثوية بالذكورية فيها وأنها تعبير عميق عن التركيبة التونسية الحقيقية، علاوة على أنه نوع من التطهير شجن يبكي ويُضحك يشكو ويأمل يحب ويكره رقيق في جوانب وقوي في جوانب أخرى.

أغاني المزود تستحق العناية أكثر والتطوير لمواكبة العصر بكل متغيراته، فقد تراجع حضورها في الأحياء الشعبية وغيرها لصالح مقطوعات الراب، التي تحاول أن تنطق على لسان الشباب التونسي والطبقات المهمشة بدورها، لكن الفرق واسع بين العالمين، عالم الفن الخارج من الفطرة والضارب في القدم وعالم يؤلف مقطوعات للاستهلاك فحسب.

وتبقى مبادرة الڤرفي مهمة في محاولة التجديد في هذا الفن وتخليصه من الصور النمطية التي مازالت تلاحقه، على أن تتبعها محاولات أخرى أكثر تكاملا وانفتاحا على تجارب أخرى دون إنكار فضل الرواد، وهو تمش يبدو أن الفنان يخوضه بوعي وهو ما يظهر في تخصيصه لخاتمة الحفل إهداء للفنان المسرحي عبدالقادر مقداد الذي يعتبر ممن همشتهم الانتفاضة التونسية وتسببت في إقصائه رغم رصيده الفني الكبير.

14