نشيد الحيتان وتيار "فلوكس" الفني

حركة "فلوكس" تشمل الموسيقى وأساليب التعبير الإيقاعية/الثورية المختلفة عن المنظومات الموسيقية.
السبت 2020/03/21
قرع الطناجر: جمالية موسيقية وبصرية من رحم الثورة اللبنانية

هناك تيارات فنية عبرت التاريخ الفني/الموسيقي قد يصعب للبعض غير المتمرّس فهمها تماما، ومنها حركة “فلوكس” الفنية التي دامت منذ بداية الستينات من القرن الفائت حتى منتصف السبعينات.

يمكن بشكل عام ردّ أصول هذه الحركة الفنية إلى المدرسة الدادائية التي، وباختصار شديد، نشأت كردّة فعل على انهيار القيم الإنسانية ما بعد الحرب العالمية، والدعوة إلى تحطيم أطر الفن التقليدية، لاسيما تلك التي مكانها المتاحف.

وإذا كانت الدادائية الفنية أسهل على الاستيعاب بمجمل ظهوراتها وأسبابها، فحركة “فلوكس” الأوسع والأكثر تعقيدا، والتي شملت الموسيقى وأساليب التعبير الإيقاعية/الثورية الخارجة عن كل المنظومات الموسيقية، هي حركة غير “يسيرة” على الاستيعاب، إذا صح التعبير.

غير أنني في الأشهر الخمسة الأخيرة، أي خلال يوميات الثورة اللبنانية، استطعت التماس عمق ما عَنَت، على الأقل على المستوى الشخصي المبني على مشاهدات بصرية وسمعية في آن واحد.

البداية كانت عند مشاركتي في إحدى المظاهرات، حيث شاركت مجموعة كبيرة من الثوّار في الضرب على الألواح الخشبية والحديدية في وسط بيروت بواسطة أحجار كنوع من الاعتراض على جلسة تشكيل الحكومة.

حدث هذا الأمر بشكل تلقائي عندما شعر الثوّار أن صوتهم لا يلاقي أذانا صاغية، لاسيما عن مسافة كبيرة من انعقاد جلسة التشكيل.

ازداد عدد المشاركين وتبدّل إيقاع الضرب على الجدران بوتيرة وبإيقاعات متداخلة نبعت من “أصول” موسيقية محددة توالد منها الارتجال، كما تبدّلت فيها أدوات “العزف” من استخدام اليدين والرجلين إلى الأحجار، والقطع المنزوعة من الأبنية المحيطة، وصولا إلى تحويل أعمدة الإنارة الحديدية المقعّرة إلى آلات موسيقية مكّنت الثوّار من اختبار وإخراج “نوتات” موسيقية رنّانة مبنية على درجة عنف الضرب، أو وفق زاوية إنزال الضربة على تلك الأوتار الحديدية غير التقليدية.

يومها مرّت دقائق عديدة قبل أن يزداد عدد “العازفين” وتشتدّ قوة الصوت إلى درجة مؤلمة، بحيث لم أشعر بقوتها إلاّ عندما بدأت أذناي تؤلمني بقوة.

ابتعدت بضعة أمتار عن مسرح التأدية الموسيقية لأكتشف مع بعض الخوف بأنني لم أعد قادرة على سماع أي صوت. انتظرت ربما أكثر من ربع ساعة حتى عادت إليَّ حاسة السمع. تلا هذا اليوم اعتماد القرع على الطناجر والضرب على الطبول. ثم جاءت ليلة أخرى انقطعت فيها الكهرباء بشكل متعمّد، فلم يعد أحد منا يرى الآخر. ولم تعد مكبّرات الصوت تنقل الشعارات التي كان يتلوها بعض الثوار على مسامعنا.

قبعنا وقتها في اللامكان البصري والسمعي لأكثر من نصف ساعة خفتت فيها كل التحرّكات والأصوات، وتمّ خلال ذلك القبض على بعض الثوّار وسحبهم من الساحة. عندما أدركنا ذلك انطلقت صرخات بدائية/لفظية غير مفهومة لتتكاثر مُتميزة بإيقاع موحّد تارة ومتنافر تارة أخرى، ثم دخل إليها القرع على سياج الجسر الحديدي المُطلّ على أوتوستراد بعبدا المؤدي إلى القصر الجمهوري، حيث قبع رئيس الجمهورية غير سامع وغير مُطلّ على ما يحدث.

عندما عدتُ إلى المنزل استمعت إلى ما سجّلت، وأكاد أقسم بأن ما سمعته كان عملا موسيقيا تجريديا فجّا ومعبّرا أكثر من آلاف الكلمات. في اليوم التالي عكفتُ على قراءة نصوص تتعلّق بتيار الفلوكس، لأجد فيه تجسيدا نوعيّا لما قدّمته هذه الحركة من محاولات ثورية آنذاك انضم فيها البصري إلى السماعي، في ما يشبه ما يُطلق عليه بـ”برفورمانس آرت” مُستمد من قلب الحياة العادية/ اليومية ومنفذ بكل ما يمُكن استخدامه من أشياء ليست مُصمّمة للعزف عليها.

واشترك الإنشاء الموسيقي بما صنعناه تلك الليلة وفي ليالي متلاحقة بعدة مقوّمات جعلتها قريبة جدا من العديد من الممارسات الموسيقية “الفلوكسوية”، أهمه أنه اعتمد أدوات عزف غير تقليدية اعتماده على الارتجال.

وطغت عليه صفة الاحتجاج من ضمنها الاحتجاج السياسي والإعلان عن مواقف مدعومة بالضجيج والتشويه المُصمّ للآذان في أحيان كثيرة، وغير المعني البتة بالجمالية بالمعنى التقليدي.

كما تميّز بأنه صدامي مولّد لأفكار مضادة للسائد بشكل عام وللسلطة على تنوع ظهورتها. واتصفت بمشاركة أفراد عاديين، وفق مقولة أحد أهم منظري الفلوكسوية، جوزيف بويس، “كل إنسان هو فنان”.

إنها “موسيقى الخطر” التي لطالما ردّت إلى طبيعة العزف “الفلوكسوي”. أنها الموسيقى التراجيدية عندما تتعطل لغة الكلام. هي طبقة من الأصوات التجريدية التي بوسع البشر سماعها للزلزال قبل حدوثه. أصوات شبّهها العلم بغناء الحيتان في البحار عندما تطلق أصواتها فوق سطح الماء.

قيل إن أكثر كائن وحدة على وجه الأرض هو الحوت. وحيد كالثورة اللبنانية في بحر القمع العارم، وكما “الاستعراض الفلوكسوي” الدالّ على الفوضى، هو إعلان خطابي غير تقليدي عن فشل الخطابة. وهو توصيف تام على لسان، يوكو أومو، أحد ممارسي تيار الفلوكس حين قال عن استعراض قام به “هو صرخة المؤدي ضد الريح، ضد الجدار، وضد السماء”.

13