نشدان العالمية التحدي الأكبر أمام الدورة الـ40 لمهرجان القاهرة السينمائي

الملامح الأولى التي أعلن عنها القائمون على الدورة الـ40 من مهرجان القاهرة السينمائي، تشير إلى أن هناك الكثير من الطموحات التي تدفع الرئيس الجديد للمهرجان، المنتج محمد حفظي نحو نوع من المغامرة، سواء مع التوسع الكبير في برامج وأقسام وأفلام المهرجان، أو توسيع رقعة وحجم التظاهرات الفرعية الأخرى.
يعتبر القائمون على مهرجان القاهرة السينمائي أن المهرجان وهو يصل إلى دورته الأربعين التي تفتتح في الـ20 من نوفمبر الجاري وتختتم في الـ29 منه، يجب أن يكون قد استوعب وهضم خبرة السنوات الماضية، وأصبح بإمكانه العبور نحو أفق عالمي حقيقي بعد أن ظل طويلا يراوح مكانه، مع وجود الكثير من المعوقات والمشاكل التي ترتبط بهيمنة أجهزة وزارة الثقافة المصرية، التي تسعى عادة، لفرض ضوابطها ومفاهيمها الخاصة عن المهرجانات الرسمية.
ليس معروفا حتى الآن كيف ستتمكن الإدارة الجديدة للمهرجان من الإفلات من القيود التقليدية البيروقراطية، ولا كيف ستتعامل الوزارة التي تحكمها تقاليد عتيقة متوارثة، مع الطموحات الكبيرة للرئيس الجديد للمهرجان، المنتج محمد حفظي، ولا من أين ستأتي الميزانية الضخمة اللازمة لتحقيق الطموحات المنشودة؟
هناك أولا ما يشير إلى الرغبة في زيادة عدد الأفلام التي يعرضها المهرجان في أقسامه المختلفة، والحصول على عدد أكبر من الأفلام للعرض العالمي الأول، وابتكار أقسام وبرامج جديدة متنوعة، والوصول بالمهرجان إلى آفاق أوسع، وتحقيق حضور أكبر للسينمائيين، وخاصة ممولي ومنتجي السينما في العالم لدعم مشاريع الأفلام العربية الجديدة، وهذا كله جيّد، ولكن كيف سيتم تحقيقه على أرض الواقع؟ هذا هو السؤال الصعب الذي يجسد التحدي الجديد.
تحديات كبرى
أعلن المهرجان أن مسابقته الدولية الرئيسية تضم 16 فيلما ستعرض جميعها “عروضا عالمية أولى”، في حين أن فيلم “أمين” للمخرج الفرنسي فيليب فوكون، وفيلم “دونباس” للمخرج الأوكراني سيرغي لوزينيستا، وفيلم “طيور الممر” للمخرجين كريستينا غاليو وشيرو غيرا من كولومبيا، وفيلم “اللامبالاة اللطيفة للعالم” للمخرج أديلخانيرزانوف من كازاخستان، عرضت كلها في مهرجان “كان” ثم في مهرجانات أخرى.
وعرض فيلم “نشوة” للمخرجة والممثلة الإيطالية فاليريا غولينو، وفيلم “الزوجة الثالثة” للمخرجة الفيتنامية آش مايفير، وفيلم “ذات يوم” للمخرجة المجرية صوفيا سيلاجي، في مهرجان تورنتو، كما عرض الفيلم البريطاني “أطع” (Obey) لجيمي جونز بمهرجان ترايبيكا بنيويورك، وعرض فيلم “البرج” النرويجي بمهرجان أنيسي الفرنسي، وعرض فيلم “مانتا راي” الفنلندي في مهرجان فينيسيا، وهكذا.. وقد يكون الفيلم المصري “ليل خارجي” للمخرج أحمد عبدالله، الوحيد الذي سيعرض للمرة الأولى عالميا في المسابقة الدولية.
وكل هذا ليس من شأنه التقليل من أهمية هذه الأفلام وقيمتها الفنية، فمعظمها أفلام جيدة وتستحق أن تتسابق في القاهرة على جائزة “الهرم الذهبي” وغيرها من الجوائز، غير أن المقصود ضرورة أن يراعي المهرجان الدقة مستقبلا في ما ينشره ويروّج له في أوساط السينمائيين في مصر والعالم لضمان تمتعه بالمصداقية.
ومعروف أن الاتحاد الدولي للمنتجين (الجهة التي تمنح التصنيف للمهرجانات الدولية) يشترط ألاّ يكون الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية قد شارك من قبل في مسابقات مهرجانات أخرى، إلاّ أنه لا يشترط عرض أفلام المسابقة عروضا عالمية أولى، لكن المهرجانات الكبرى تحرص عادة على أن تكون أفلامها جديدة لم يسبق عرضها من قبل.
زيادة عدد الأفلام التي تعرض في برامج المهرجان المختلفة إلى 160 فيلما، هو طموح كبير، مع الإعلان عن عرضها، ليس فقط في قاعات العرض المحددة للمهرجان داخل محيط دار الأوبرا المصرية، بل سيتم توزيعها على ضواحي القاهرة أيضا.
وهذه الأفلام تتوزع على 12 قسما، أولها المسابقات الأربع: المسابقة الدولية (16 فيلما)، آفاق السينما العربية (8 أفلام)، سينما الغد (16 فيلما قصيرا)، أسبوع النقاد (7 أفلام)، تتبعها أقسام أخرى مثل خارج المسابقة (12 فيلما)، البانوراما الدولية (55 فيلما)، ولا أجد فرقا بين هذه وتلك، فالتسمية شكلية تماما وكان يمكن أن تصبح قسما واحدا تحت عنوان واحد هو “البانوراما الدولية” خارج المسابقة!، ثم هناك قسم خاص تحت عنوان تحية إلى المخرجات العربيات (9 أفلام)، ثم قسم لعرض مختارات من السينما الروسية الحديثة (9 أفلام)، وقسم العروض الخاصة (8 أفلام)، ثم قسم عروض منتصف الليل (6 أفلام)، ثم قسم مخصص لعرض بعض الأفلام المعدة عن روايات الكاتب الروائي إحسان عبدالقدوس (4 أفلام)، وأخيرا هناك قسم “بانوراما السينما المصرية” الذي يضم 5 أفلام حديثة منها فيلمان تسجيليان.
وهذا التعدّد الكبير يراه البعض ميزة في حد ذاته، وهو موجود وقائم في مهرجانات أوروبية كبيرة معروفة، لكنه في مهرجان مثل مهرجان القاهرة قد يؤدي أولا إلى ارتباك الإدارة التي يجب أن تضمن تحقق كل هذه العروض والالتزام بمواعيد العرض وتوفير النسخ في الوقت المناسب، والأهم ضمان وجود جمهور يغطي كل القاعات المخصصة للعروض في وقت واحد، وهو ما يصعب تحققه كثيرا في مدينة مثل القاهرة بسبب صعوبة الحركة والانتقال مع غياب شبكة مواصلات حديثة تتمتع بالكفاءة والسرعة في تغطية المدينة كما في برلين أو لندن كمثالين.
ومن اللافت للنظر غياب الأفلام الأميركية تماما عن المسابقة الدولية، والواضح أن شركات التوزيع الأميركية أحجمت عن تزويد المهرجان بأفلام حديثة لا تريد “حرقها” قبل توزيعها في السوق (باستثناء فيلم الافتتاح “الكتاب الأخضر)، أو أنها تخشى أن تتعرض أفلامها لمقص الرقيب.
ومن الإضافات الجيّدة دون شك، توفير ترجمة إلكترونية لعدد كبير من أفلام المهرجان منها كل أفلام المسابقة كما أعلن، ومع ذلك هناك عدد من الأفلام الأميركية الجيّدة جدا خارج المسابقة مثل “رجل الكوكلوكس كلان الأسود” لسبايك لي، و”الزوجة” لبيورن رونجا، و”غالفستون” لميلاني رولان، وغيرها.
جوائز إضافية
من الجوانب المثيرة تخصيص جائزة لأحسن فيلم يختاره الجمهور من خلال بطاقات اقتراع يتم توزيعها قبل العروض، وتبلغ القيمة المالية لهذه الجائزة 20 ألف دولار. وتضم مسابقة “آفاق السينما العربية” التي تشمل ثمانية أفلام من مصر والمغرب والسعودية ولبنان والإمارات وتونس، منها فيلم “الكيلو 64” للمخرج المصري الشاب أمير الشناوي، وسيكون عرضه بالمهرجان عرضا عالميا أول.
وفي “أسبوع النقاد” تعرض سبعة أفلام بينها فيلم مصري جديد هو “لا أحد هنا”، وهو من أفلام الاتجاه الذي يعرف بـ”السينما المستقلة” ومن إخراج أحمد مجدي، وتمنح لجنة تحكيم مكونة من ثلاثة أعضاء جائزة مالية تبلغ قيمتها 15 ألف دولار لأحسن فيلم عربي في مسابقات المهرجان، وهي قفزة في قيمة الجائزة، وخطوة جيّدة لتشجيع السينما العربية.
ونجح المهرجان في إقناع المخرج الدنماركي المرموق بيلي أوغست برئاسة لجنة التحكيم الدولية للمسابقة الرئيسية، كما تضم اللجنة أسماء بارزة مثل المخرج الفلبيني بريانتي ميندوزا، والمخرج الإيطالي فرنشيسكو مونزي، والمخرجة المصرية هالة خليل، والممثل التونسي ظافر عابدين، والممثلة الكازاخية سامال يسلياموفا، والممثلة البلجيكية ناتاشا رينييه، والممثلة اللبنانية ديامان بوعبود.
فيلم الافتتاح هو “الكتاب الأخضر” للمخرج الأميركي بيتر فاريلي، وتمثيل فيغو مورتينسين، وماهرشالا علي وليندا كارديليني ودون ستارك، هو اختيار جيّد، رغم أن الفيلم عرض من قبل في مهرجان تورونتو، حيث فاز بالجائزة التي يصوت لها الجمهور، إلاّ أنه عمل جديد لم يتم استهلاكه بعد في باقي المهرجانات كما لن يعرض عروضا تجارية في الولايات المتحدة، إلاّ قبل ثلاثة أيام من افتتاح المهرجان.
15 ألف دولار، قيمة الجائزة التي ستمنح لأحسن فيلم عربي في مسابقات المهرجان
وكانت أزمة تكريم المخرج الفرنسي كلود ليلوش قد انتهت بتراجع المهرجان عن تكريمه في ضوء ما أثير من ضجة واعتراضات من جانب فئة من السينمائيين والمثقفين في مصر الذين اتهموه بتأييد إسرائيل علانية، وكان اختيار ليلوش خطأ، ثم كان إلغاء تكريمه بعد إعلامه به خطأ آخر، وعلى أي حال وقع اختيار المهرجان على شخصية سينمائية رفيعة المستوى هو الممثل البريطاني المرموق ريف فاينز (Ralph Fiennes هكذا ينطق اسمه!).. الذي برع في الكثير من الأفلام الشهيرة مثل “المريض الإنكليزي” (1996) و”في بروجز” (2008) و”الدوقة” (2009) و”خزانة الألم” (2008) و”القارئ” (2008). وبرع فاينز أيضا في المسرح، كما أخرج ثلاثة أفلام روائية طويلة أحدثها فيلم «الغراب الأبيض» الذي سيعرضه المهرجان، وسيقدم فاينز درسا من دروس السينما في المهرجان يتحدث خلاله عن تجربته الكبيرة في التمثيل.
الملاحظ أن المهرجان قد توسع كثيرا في ما يعرف بـ”دروس السينما”، فعادة ما تكتفي المهرجانات الكبرى بدرس واحد، أي بمحاضرة تعقبها مناقشة من قبل الحاضرين مع سينمائي واحد، أما دورة مهرجان القاهرة هذا العام فستشهد مجموعة من “الدروس” مع المخرج الدنماركي بيل أوغوست، والمخرج الفلبيني بريانتى ميندوزا، وساندرا دي كاسترو بوفينغتون، المديرة المؤسسة لما يسمى “مركز الإعلام العالمي من أجل التأثير الاجتماعي”، ونيكولا سيدو رئيس شركة “غومونت” الفرنسية، ولين أماتو رئيس شبكة البث التليفزيوني بنظام الكابل والساتيلايت (HBO).
وليس معروفا كيف سيتمكن المهرجان من تنسيق وإدارة كل هذه المحاضرات، خاصة مع وجود عدد كبير من الندوات والمؤتمرات الأخرى، وكيف ستتاح الفرصة لمتابعة كل هذه الفعاليات التي تتقاطع وتتداخل في ما بينها، بحيث نضمن حضور جمهور حتى لا تتكرر مهزلة دورة 2015 عندما وجد المخرج الألماني الكبير فولكر شلوندورف نفسه وحيدا تقريبا في القاعة التي كان يفترض أن تقام فيها ندوة صحافية معه.
تكريم ريف فاينز يمنح المهرجان سمعة دولية جيدة، وكان يمكن الاكتفاء بهذا التكريم أو دعمه بتكريم شخصية سينمائية بارزة من العالم العربي، وشخصية أخرى من السينما المصرية، لكن المهرجان غلبت عليه روح التكريم المحلي كما جرت العادة منذ زمن، فأعلن عن تكريم شخصيتين من مصر دفعة واحدة: الممثل حسن حسني، ومؤلف موسيقى الأفلام هشام نزيه.
والحقيقة أنه لكي يتم الاحتفاء بشخصية مصرية أو عربية في مهرجان دولي كبير يفترض أن يكون منفتحا على العالم، يجب أن يكون لهذه الشخصية ثقل على المستوى العالمي، وهو ما لا يتوفر في حالة حسن حسني أو هشام نزيه، فهما غير معروفين خارج المنطقة العربية، ولم تصل أفلامهما إلى مجال العرض في مهرجانات العالم، بل نشك في أن أيا منهما يجد الوقت الكافي لديه لكي يسافر أصلا لحضور عروض أفلامه في بعض المهرجانات التي تقام في العالم العربي!
النقطة الثانية أنه حتى إطلاق اسم فاتن حمامة على جائزة التكريم الدولية يبدو غير مناسب مع كل التقدير والاعتزاز بدور وقيمة فاتن حمامة، لكنها تبقى أيضا شخصية محلية شبه مجهولة أمام العالم الخارجي، وكان الأفضل كثيرا مثلا أن يتم إطلاق اسم معروف في تاريخ السينما في العالم مثل لوميير أو غريفيث أو شابلن، وكذلك الأمر بالنسبة للجائزة التي تحمل اسم سعد الدين وهبة الذي لا يمثل شيئا عند غير المصريين.
أسماء هذه الجوائز تصلح فقط للتظاهرات المحلية، ولا أدري لماذا لم يكتف المهرجان بأن يطلق على هذه الجائزة “جائزة الهرم الذهبي الشرفية” أو “المسلة الذهبية” التي ترتبط بالحضارة المصرية القديمة ويعرفها العالم، لكن تغلب دائما روح الاعتزاز الوطني على التحلي بالواقعية، والمؤكد أننا لم نصل بعد إلى الانفتاح على العالم بنفس ما كان سائدا في مصر في الماضي، فمازالت غالبية المثقفين تعتبر شكسبير مجرد “شاعر إنكليزي” لا مبدعا ينتمي للإنسانية كلها!
ملتقى القاهرة
من الفعاليات التي توليها الإدارة الجديدة اهتمامها “ملتقى القاهرة السينمائي”، أي المنصة التي يراد لها أن تتيح لصناع الأفلام العرب فرصة لتوسيع شبكة علاقاتهم في مجال السينما العالمية وتلقي الدعم الذي يحتاجونه حتى ترى أفلامهم النور.
وتصل قيمة الجوائز التي تتنافس عليها مشروعات الأفلام العربية التي تقدمت للمهرجان وتم قبولها وأعلن عنها في مجالي الفيلم الروائي والتسجيلي، أكثر من 100 ألف دولار أميركي (أي حوالي مليون و800 ألف جنيه مصري)، أعلن المهرجان أنها ستأتي من رعاة من أهم مؤسسات السينما في العالم العربي، ولو تم هذا على نحو ما يأمل المهرجان ستكون دون أدنى شك قفزة نوعية في سياسة المهرجان وخطوة جيدة تفتح المجال أمام تأسيس “سوق حقيقي” للأفلام مستقبلا.
كل ما عرضناه من طموحات كبيرة تجعل من هذه الدورة دورة الطموحات والتحديات، ويتبقى فقط أن ننتظر لكي نعرف كيف سيمكن لها أن تنجح وتتحقق في أرض الواقع رغم كل المعوقات والإحباطات الكامنة والظاهرة في المشهد الثقافي المصري في الوقت الحالي.