نساء في مرسم إبراهيم دندل يصغن حوارا ممتدا في المسافات

خاض الفنان التشكيلي السوري إبراهيم دندل في معرضه الذي انتهى منذ أيام تجربة مغايرة، يحاور فيها نساء سويسريات مررن بمرسمه، فصنع من حكاياتهن لوحات وقصص تنقلهن بكل حواراتهن المكثفة إلى المتلقي. وهو يحاول في هذه التجربة كما في تجاربه السابقة أن يخلق لنفسه أسلوبه الفني الفريد.
سبق، قبل أكثر من سنة أن كتبت قراءة مستفيضة عن أعمال الفنان التشكيلي السوري إبراهيم دندل وما تنبض به تحت عنوان “إبراهيم دندل سليل مدينة غائرة في الزمن يحملها معه في كل لوحاته”، وقصدت حينها مدينته، مدينة تدمر التي احتضنت أرقى الحضارات القديمة وتشهد عليها وعلى استثناء أبنائها وعبقريتهم. آثارها التي مازالت تنطق المكان بروحها.
تدمر المدينة التي احتضنت ولادة الفنان وطفولته ويقظته ونضوجه وموهبته، ووجعه وغربته، المدينة التي تكفي أن تنتمي إليها حتى تكون جديرا بالحياة، وبأن عبقك سيكون مختلفا، وبأن ما ستقدمه فيها سيكون ممتعا وهاما، يجب أن ننظر إليها كقنديل قادر على أن يضيء الأزقة المعتمة في دواخلنا، وما أكثرها، وقادر على أن يشير إلى المآسي التي عشناها ومازلنا نعيشها.
النجاح الذي قد يولد لأحد أبناء تدمر ليس ثقبا في الهواء، بل مشاركة للعواطف والخواطر وحسن الإدراك وإقرارا بمقدرة عالية على التعبير وبلباقة وجمال وقوة.
لغة تشكيلية جديدة
التشكيلي إبراهيم دندل (1973 – تدمر) الذي أقام معرضه الفردي الآن تحت عنوان “نساء في المرسم”، ما بين 9 و19 ديسمبر الجاري في غاليري “أوبن آرت” بمدينة بازل السويسرية والتي تعتبر بحق عاصمة الفن الحديث، بلغة جديدة تنسج طموحه في عمليات الخلق، بأسلوب مغاير يقص قصصه الكثيرة والموجعة، ويحمل من الأدوات الفنية ما يخدم المدى الذي يجاهد كي يبلغه، والذي يفرض عليه نوعا من كسر الحدود الذي يفصل بين الخفاء والغموض من جهة، وبين الفنون على نحو عام من جهة ثانية.
وهذا المعرض الذي حمل عنوان “نساء في المرسم” كان يرافق كل لوحة من لوحاته نص نثري يمضي بالتقاطع مع النص البصري، كل منهما يسرد للآخر حكايته التي لا تنتهي، والتي تتحد جميعها فيما بعد بحكاية واحدة تجمع الكل، ببوحها ووجعها، ببؤس الطريق وقضاياها التي لا تقتصر على الكلام بل على فصولها التي تمتاز بصفات فائقة الدقة، والتي توجز الحكاية بأحكامها وأحاسيسها، فيسترشد بها المتلقي على الغالب، وهنا يضيف دندل طائفة من القيم التي تجري في مشهده مجرى الأمثال في حسن صياغتها.
“نساء في المرسم” العنوان الذي اختاره إبراهيم دندل لمعرضه الأخير، وهذا الاختيار ليس اعتباطيا بل هو مدروس بعناية، تحكمه معايير دقيقة من خلال حالاته ومسعاه لشد الواقع صوب ما ينبغي أن يكون، ويجعل للكينونة الإنسانية سماتها غير المحددة، إذ يكون في لحظة ما ذاتا بالمعنى الإنساني المميز، إن كان من حيث إدراكه لما يفعله، أو ما يذهب به المناخ العام، فهو وحده القادر على أن يكون ذاتا محددة بذاتها في جميع حالات الحوار.
هكذا يكون دندل متماديا مع نسائه، أقصد مع أولئك النسوة اللواتي كن يمررن عليه في مرسمه، ويشعلن حوارات لا تنتهي، فهو لديه إمكانية تقرير مصيرهن إن كن في أعماله أو حضورهن المعرض ودخولهن في حوار طويل مع الفنان.
هذا الحوار الافتراضي الذي جعله دندل ركيزته في كسر الصندوق الأسود للنساء والسماع إليهن وهن يسردن له وبالتالي لنا مواقفهن ورؤيتهن وأحلامهن، ووجعهن، يسردن بحرية مطلقة فيها من الإدهاش بقدر ما فيها من ارتباط وثيق بالانعتاق، دون أيّ تهديد باستئصال حقهن في الحديث وهن يمضين في الحياة نحو الحياة، وكل الوقائع الراهنة منها والتاريخية ما هي سوى لحظات تم قنصها من الحقائق العامة. ويمكن رصد ذلك في متن الحوارات الافتراضية المرتبطة بشرطها الإنساني بالضرورة، فلا وهْم هنا، بل وعود يبحث عن آليات لتحقيقها.
يبدأ المعرض بكلمة للفنان يلخص فيها هدف المعرض وموضوعاته، ومرحبا بالحضور، وبأولئك النسوة اللواتي ستكون لهن الأهمية الكبرى، وبأن الحديث معهن يحمل نكهة خاصة ومميزة.
يبدأ الحوار بحرية من تبدأ، ولها الحرية المطلقة في الحديث عن الموضوع الذي تشاء، فتتحدث الأولى عن الأمومة، والثانية عن الثورة، والثالثة عن الحياة، والرابعة عن المجتمع، والخامسة عن موضوع آخر، وهكذا يسردن حكايات طويلة في أحاديثهن.
يدخل الفنان معهن في حوار غني ومشبع بالمسؤولية الأخلاقية التي هي بوصلة داخلية لكل منهن وله ولنا، تتجاوز ما يتطلبه القانون، وبأن الحقيقة مفهوم معقد ومتعدد الطبقات، وبأن الإنسانية هي نوع رائع من التطور وعلى نحو مستمر على مدى الآلاف من السنين، ثم أنهى الفنان حديثه عن منفاه القسري بكل آلامه وحزنه ومعاناته.
تعود النسوة كل منهن إلى مكانها في لوحتها التي تنتظرها على الحائط، ويبدأ الجمهور الجميل بالتأمل في تلك الحوارات التي كانت أشبه بمسرحية بين الفنان والنساء في مرسمه، وفي أعماله، يتركن اللوحة ويقفزن إلى الصالة مع الجمهور وبينه، وما أن تنتهي المسرحية – أقصد الحوار – حتى يسرعن إلى مكانهن ويغدون السبب الأهم في وجود العمل وتجميله، فإذا كانت جميع الأشياء الأخرى متكافئة، تلبّي حاجات العمل الفني، فهؤلاء النسوة كن روحه التي تعكس حاجته إلى العدالة والحرية.
لعله ليس من الغريب أن تكون أعمال دندل، تلك الأعمال الأكثر إبداعا في تصور الفعل، سفيرتنا إلى صالات الغرب، ولسان حالنا، فيها من التناغم والانسجام المفرطين مع حالنا والوجع الذي نحمله في دواخلنا، إلى جانب اهتمامها بكل دوافعنا وما نحمله من آلام وآمال، فهي تحقق وحدة صادقة بمصالحتها مع المجتمع بوصفه عنوانا للحياة.
وإبراهيم دندل له طريقته الخاصة في الإبداع وامتثالها، طريقة تعبر عن إيمان متفائل إلى أبعد الحدود وخال من الإشكاليات التي قد تلد هنا أو هناك. بمقدوره أن يفلح، فالحقيقة قد تنطوي على مفارقات تلائم مقولاته التي تختزل بدورها تصوراته لأشياء جديدة في إطار من الفعل الإبداعي الجديد الذي يتسم بتحولات كالحة في توجه مّا من ضروبها، غير أن الأهمية الكامنة هنا تضل واضحة على الرغم من قتامتها، فمفهومه للاستكشاف يشير إلى تلك الحاجات المعرفية التي تمضي به إلى أبعد من مظاهر الأشياء، بل إلى أبعد من الوقائع بحد ذاتها، تمضي به صوب رؤية كلية تخصه وهو الأمر الغائب الحاضر بوضوح.
هو يتقن الهدف الذي يمضي إليه، ويفهم جيدا كيفيته وكيفية الوقائع التي تظهر على مشهده البصري، والدافع لدى دندل هو التقاط التعالق بين الأشياء ووحدتها الصميمية، وكأنه يركن إلى مقاربة الظواهر الاجتماعية التي تنطوي على رفض الواقع والوضع الراهن، حيث يواصل في الإنتاج بإيقاع خاص به وبالطريقة التي لا تعزله عن الكل بأغراضها الخاصة. هذا ينتج لنا خططا متعددة يمكن لنا تلمسها في أفكارها المتشظية داخل الفروع المعرفية التي تقتضي الربط بين أدواتها المختلفة.
ومن المؤكد أن دندل يجتهد بجدارة لتثبيت ذلك وإبعاده عن الوهم الذي قد يسقط فيه إذا لم يكن الفنان ماهرا في العوم في بحار أفكاره.
تفكيك الخطاب المتداول
إبراهيم دندل لا يريد أن يتقيد بمدرسة معينة، دائما له حريته المطلقة في الإبحار، وإن كان الأقرب إليه التعبيرية والتجريدية والتزاوج بينهما، فإذا كانت تدمر مدينته التي علّمته الرسم، فالحياة علّمته أن يكون حرّا مهما كان السوط معلقا في سماواته.
هو القادر بفرشاته وألوانه على أن يلفت انتباهنا إلى ما أفرزته تجربته القادمة من سنوات طويلة من الظلم والاضطهاد والبؤس، تجربته التي تحمل مناهل من العشق للإنسان والحياة والتاريخ. فهي تجيد التعبير بلغتها الخاصة وبتعدد مضاربها وبالتصريح الدائم داخل نطاق الإبداع الذي يظهره بأحاسيس ومشاعر تنبئ بذاكرة ينبغي عليها أن تصان، وإن كان على غرار ما تنبعث من بين أصابعه لغة، موقفا، فنا، جمالا بأبواب مفتوحة على التاريخ والذاكرة من ناحية، وعلى الواقع ومشاهده التي تمتلئ بعمليات التكبيل والإلغاء من ناحية أخرى.
ودندل يسعى إلى تفكيك الخطاب المتداول أولا، ثم بطاقة إبداعية يعيد ترتيبه بالشكل الذي يراه والذي يجب أن يكون عليه، فهذا الترتيب، بل هذا التقويض يفتح أمامه مجالات للتساؤل عن تبعات ذلك في الماضي والحاضر والمستقبل، فيدحرج بألوانه نحو أشكال توقظ فيها مشاهد استحضرت ما علق في ذاكرة بلده بمقاربات مجازية تستمد دلالاتها من ذات الفنان في أوج حالة تشكله.
تفكيره بطبعه مستمر حول عمليات الإبداع التي تسعى بدورها لقلبه على كافة أوجهه حيث الرشاقة، والحكمة حاضرة بين حقوله أقصد حقول عمله الفني، تمنحه قوة بها يخوض مغامرته الجميلة المتعبة.
بعد وقفتنا واستعراضنا جملة العناصر التي اعتقدنا بأهميتها في أعمال إبراهيم دندل، وفي الأسلوب المختلف الذي قدمه لنا في معرضه هذا “نساء في المرسم”، والحوار الافتراضي العذب الذي حرك المعرض ومضى به إلى حالة وإلى لحظات لا تنفصل فيما بين بعضها بعضا وتدل على عمق دلالة البحث لدى دندل التي جعلت لغته ووسائلها تمارس أبعادها بقوة حضورها، وتعرف نفسها على كمّ من المرجعيات الخاصة بدندل التي يتكئ عليها، حري بنا أن نقول إن معرضه هذا كان يضم واحدا وعشرين عملا تشكيليا بقياسات متقاربة (90 x 70) والذي كان يرافق فيه مع كل عمل من أعماله نصا نثريا يغني العمل ويفتح للمتلقي طاقات نحو التأمل ووضع اليد على مفاصله، وخلق صدى عذبا في الإعلام السويسري.
هذا الفنان السوري لا يبحث عن لقمة العيش بل عن الحياة وكرامته، خلقها والفعل فيها بما يمنح له من مساحات بيضاء، وأعود لأقول إذا كانت تدمر علمت دندل الرسم كما يقول، فالرسم علّمه الحياة والإنسان والطريق إليهما.