نزار صابور فنان سوري يبحث عن الحياة في الموت

الفن بالنسبة للتشكيلي السوري نزار صابور ليس هواية أو احترافا، إنه طريقة حياة يتسلل من خلالها إلى كل التفاصيل اليومية.
الجمعة 2020/02/07
العشاء الأخير تحية إلى دا فينشي

من هو الطرف الذي يدين للطرف الآخر؟ سوريا، بإرثها التاريخي والإنساني، أم نزار صابور، الذي أخلص لأدق التفاصيل الروحية وهو ينقل بيئتها وعمارتها وإنسانها؟ ما من فنان تماهى مع محيطه مثلما فعل، وما من فنان حلّق بعيدا على ارتفاع شاهق مثلما حلّق هو. وكان قادرا في كل الحالات على نقل نبضها وانفعالاتها بصدق صادم، محوّلا كل ركن من أركانها إلى أيقونة تاريخية.

بعد عام تقريبا من معرضه “نواويس سورية” أطل الفنان التشكيلي السوري نزار صابور على الساحة التشكيلية بعمل منمنم صغير، هو أشبه بعزف منفرد على آلة كمان، استعاد من خلاله الأجواء الدينية التي شكلت مسيرته الفنية، منذ اللحظة الأولى التي حمل فيها الصباغ ليترك أثرا على لوحة بيضاء.

العشاء الأخير، هو عمل أقرب ما يكون إلى إلقاء تحية عابرة على فنان عظيم، ما زال يفرض وجوده على الساحة الفنية بعد 500 عام من الرحيل.

هل هي الأسطورة، أم هي رهبة الموت، ما يطالعنا به نزار في كل مرة يكشف فيها عن عمل من أعماله؟

كل الفنانين بدؤوا تلاميذ، يبذلون الجهد في تعلم تقنيات الرسم والتلوين، كما يتعلم طفل الحبو، إلاّ نزار بدأ رحلته جَريا. لا أعلم كيف استطاع أن يقنع معلّميه أن يغضوا الطرف عن رفضه رؤية العالم كما هو.

خرق للمألوف

نزار صابور: لا بد من تكريس الحياة للفنّ، كما يفعل رجال الدّين
نزار صابور: لا بد من تكريس الحياة للفنّ، كما يفعل رجال الدّين

في الوقت الذي كان الجميع فيه يجتهد لنقل التفاصيل، والحفاظ على النسب، واستخدام كل حيل المنظور الخطي والهوائي، لنقل الواقع كما هو، أو على الأقل كما ينبغي أن يكون عليه. مضى نزار غير عابئ بتلك المهام، يبحث عن واقع هو خلف الواقع، وعن عالم يعيد اختراعه، ويفرض على الجميع الوقوف أمامه برهبة وخشية.

وبينما يتعثر الفنان المبتدئ بنقل المشهد الذي تراه عيناه إلى سطح اللوحة، كان نزار يقرأ المشهد الذي يتلقاه بعقله قبل عينيه، ليسكبه فنا على اللوحة.

من قال إن اللوحة مجرد مربع أو مستطيل تختلف قياساته من حين لأخر، ولكنها تحافظ دوما على نسبة يحرّم على طلاب الفن خرقها؟ ومثلما اخترق نزار أبعاد اللوحة، اخترق أيضا المواد التي تدخل في صنعها. وكان دائما مقنعا في خرقه المألوف، والمعتاد، والمتفق عليه.

وكما رائد النهضة دافشي، كان نزار رائدا للتجريب في الساحة التشكيلية السورية، “منذ سنوات، وأنا أستخدم مواد طبيعية لها علاقة بذاكرتنا، ولها أيضا خصوصيتها، فأنا أستخدم (العرجوم) وهو من بقايا عصر الزيتون، ووالدتي كانت تستخدمه للتدفئة، وأنا أجد أن هناك رابطا روحيا بين شجرة الزيتون وبينه، فأسعى لتحويله إلى عمل فني”.

وما بدا آنذاك، في سبعينات القرن الماضي، كسرا للتقاليد الفنية، تحوّل عند نزار صابور بمرور الوقت والإصرار إلى قاعدة يُسار على هديها.

لم يكن الفنان السوري يوما ضيّق الأفق، سجين فكر ديني متعصب، لذلك يجب أن لا تضللنا العناوين التي يختارها لأعماله أو مواضيعه.

تجربة نزار صابور مع “نواويس سورية”، بحثا عن الخلود، ليست لشخصه، بل هي لأفراد آخرين، عرف بعضهم عن قرب، وآخرين تعرف إليهم من آثارهم، هي محاولة لإلحاق الهزيمة بالموت والدمار، هذا الموت الذي غلّف سوريا بغلاف من الحزن والكآبة واليأس، انتصر عليه الفنان بالقول إن في سوريا ما يستحق أن يعاش لأجله، طالما وُجد آخرون مهمون بالنسبة إليه، آخرون يستحقون أن يطلق عليهم لقب قديسي هذا الزمان.

لم يكن صعبا، كما يقول نزار، العثور على شخصيات متميزة تستحق أن تكون أيقونة. بدأ بحثه من فترة الخمسينات، ليختار عشرين شخصية، ووجد نفسه مضطرا لرفع العدد إلى ثلاثين، وتوقف أخيرا عند 56 شخصية، استغرق إنجازها عامين من الجهد.

الأعمال الـ56 هي في الحقيقة عمل واحد، عمل أراد من خلاله الفنان تكريم بلده، مذكرا العالم بالحالة السورية الصعبة، التي “لم يشهد التاريخ مثيلا لقسوتها” كما يقول.

الفنان السوري يحاول في أعماله إلحاق الهزيمة بالموت والدمار، هذا الموت الذي غلّف سوريا بغلاف من الحزن والكآبة واليأس
الفنان السوري يحاول في أعماله إلحاق الهزيمة بالموت والدمار، هذا الموت الذي غلّف سوريا بغلاف من الحزن والكآبة واليأس

الفن بالنسبة لنزار صابور ليس هواية أو احترافا، إنه طريقة حياة، يتسلل من خلالها إلى كل التفاصيل اليومية للفنان، يشاركه أحاسيسه وأفكاره، التي تتشكل من خلال معايشة الحياة والهموم المحيطة به. “عمل الفنان ليس أن يرسم فقط” كما يؤكد، بل أن يبحث عن الفكرة ويحضر لولادتها.

“لا بد من تكريس الحياة للفنّ، كما يفعل رجال الدّين”، هكذا يقول. ومع ذلك يمرُّ الفنان بفترات يسميها “مارقة” تفلت أحيانا من الرقابة.

ويتابع “إن الفن ورطة وبلاء”، ونزار قد ابتلي فيها منذ أن كان طالبا صغيرا يحب الرسم، ليتابع هذا الشغف دون مشرف أو مساعد، غير عابئ بالتفاصيل الصغيرة التي شغلت آخرين.

ويقول إن انتسابه لكلية الفنون الجميلة، في دمشق، لم يغيّر كثيرا من طبيعة علاقته بالفن، لينكب على العمل باجتهاد. ومع مرور الوقت، حدث كل شيء، متاعب ومُتع دون حدود، “شعرت أني متورط، لكن لا خلاص، حياتي أصبحت له.. الفن”.

نعوت وحصار

لم يكن للأزمة السورية، التي بدأت عام 2011، أن تمرّ في حياته مرور الكرام، ليخرج إلينا بمجموعة أعمال حملت عنوانا واحدا هو “نعوت”، نعوت لكل مكونات سوريا، تلتها مجموعة دوائر حملت عنوان “حصار”.

أما عمله “يوميات الحب والحرب” فكان كتابا، من مجموعة كتب مجسمة، حملت أفكارا منوعة، عددها ثلاثون كتابا، يتألف كل منها من سبع أوراق خشبية، يحتويها مغلف يحمل عنوانا مميزا أشبه ما يكون بمذكرات يومية.

الأزمة التي فرضت وجودها على حياته، دفعته للعمل، وزادت من عزلته الروحية، لينسحب من الحياة الصاخبة، “أمام الموت والدمار، يصبح كل شيء غير ملائم”.

وعندما أطل من عزلته، ليرى اليابسة وقد انحسرت عنها مياه الطوفان، اعترف نزار أنه رفض بوعي إجراء أحاديث صحافية، فكيف تكون لمثل تلك اللقاءات أهمية، وهو القائل “أرى الحديث عن الفنّ ضربا من الكماليات في غير مكانها ونهر الموت يجري في بلدي. أعيش حالة انتظار، انتظار النهاية، نهاية كلّ هذا الجنون، لنعود إلى الحياة”. “الحياة أقوى، وستمضي..” هكذا تحدث نزار.

Thumbnail
17