نرفض علنا ونحتفل سرا

من البديهيات أن العادات والتقاليد في جوانبها الاحتفالية خاصة متحوّلة دائما وإن حافظت إلى حدّ ما على الخصوصية الاجتماعية والحضارية، وبالتحديد في أيامنا هذه التي وُسمت بميْسم التلاقح الحضاري في أقصى تجلياته التفاعلية سلبا وإيجابا.
من ذلك أن مواسمنا الاحتفالية تعددت وتنوعت وأصبحت جزءا ضروريا انصهر في نسق حياتنا اليومي. الرابع عشر من فبراير موعد احتفالي مع الحبّ، إنه الاحتفال باليوم العالمي للحب. الفكرة في جوهرها ممتازة حتى وإن كانت من الوافد الحضاري المثير للجدل، تحت يافطة “لا علاقة لهذه المناسبة بعاداتنا وتقاليدنا وخاصة ديننا”.
نرفض ولكننا نحتفل.. إنه المعيار السائد للتعامل مع الوافد الثقافي الوارد علينا.. ولا ننفي أننا نتمنى أيضا أن نحقق ما نصبو إليه من أهداف وطموحات، ندعو أن يحقق لنا أمانينا في مناسبة مسيحية.
عيد الحب، دعوة إلى التحابب وتذكير بالمعاني السامية لهذه المناسبة، ما الداعي لأن نرفض الاحتفال بها إذا كنا فقراء للحب في مسيرة حياتنا اليومية؟ وما المانع من إحياء هذه المناسبة حتى وإن كانت من الوافد الثقافي والحضاري الذي نرفضه خطابا علنيا ونقبله ممارسة سرا؟ أكاد أجزم أننا نعيش انفصاما حادا في الشخصية، حيث تتربع في ذواتنا كل المتناقضات التي يقع تصعيدها باستمرار وصولا إلى حدّ المفارقة.
بكل بساطة كل الذين يدلون بدلوهم في الجدل الذي تثيره مثل هذه المناسبات إما يتخذون مواقف رافضة ومعارضة تماما وفق معتقداتهم الدينية والاجتماعية، وإما يقبلون ذلك دون وعي وفق تقليد أعمى لا يميزون من خلاله ما يتوافق مع منظومتهم القيمية والأخلاقية والحضارية عموما.
أن نحتفل باليوم العالمي للحب لا يمسّ من جوهر إيماننا ومعتقداتنا ولا يشوّه عاداتنا وتقاليدنا ولا يجعلنا تابعين، ولكن الغلط في هذا ربما أننا نحتفل بذلك بطريقة شكلية لا روح فيها ولا معاني نبيلة ولا تأسيس لقيم جديدة نحتكم لها في علاقاتنا.
إذا لم يكن احتفالنا ترسيخا فعليا لقيمة الحب في علاقاتنا اليومية، وإذا لم نحوّل كل أيامنا إلى أعياد للحب مستمرة باستمرار أعمارنا فلن يكون للأمر أي معنى وأي مغزى بل سيجذّر تبعيتنا للوافد الثقافي دون وعي.
لا يجب اختزال الاحتفال في مجرد هدية، وردة حمراء فاقع لونها، بل يجب أن نتواصل روحيا لنبني غدا أفضل، ونعلم أطفالنا أن الحب عاطفة سامية نبيلة لا بد من رعايتها والاهتمام بها كالورد تماما كلما نقصت رعايته ذبل شيئا فشيئا وصولا إلى مرحلة الموت.
على أنغام الأغنية الخليجية “كل عام وأنت الحب” تتجدّد المشاعر والأحاسيس، التي تكلّست وتحجّرت وتشيّأت حتى غدت معلبة ومعدة للاستهلاك كالوجبات السريعة تماما.. تصوروا ما أشنع الصورة حين تصبح العواطف خاضعة للتقييس بوحدات القيس كالمتر والكيلوغرام وبأثمان أيضا ترتفع وتنخفض قيمتها التسويقية.
وطأة الضغوط اليومية النفسية والمادية جعلت عاطفة الحب على واجهة المزايدة، أكثرنا مالا هو بـ”الضرورة” أكثرنا قدرة على الحبّ، وماذا يفعل الفقراء؟ ليست لديهم سوى قلوبهم ليهدوها بالمناسبة. هل يكفي أن أقدم قلبي لأكون عاشقا محبا متيما؟
من المضحكات المبكيات أن وسائط التواصل الاجتماعي عجّت بمختلف الرؤى والمواقف المؤيدة والمعارضة للاحتفال بالمناسبة، ولم يخل أغلبها من سخرية تتعلق بعدم جدية مشاعر الحب وعدم صدقيتها.
تسرّب الشك إلى كل تفاصيل حياتنا اليومية فغدونا لا نلتمس الحب إلا في الأغاني ونحن نستحضر ذلك التعريف الراسخ للشعر “أجود الشعر أكذبه” وفي انعكاس لذلك “أجود الحب أغلاه ثمنا”، ولكن رغم التشاؤم فلا بد أن نجعل كل أيامنا أعيادا لحب متجدد باستمرار لا يهترئ بفعل الزمن ولا بفعل الضغوط المحيطة ولا بالانتهازية المتفشية، علينا أن نزرع في أسرنا وفي محيطنا الاجتماعي بذور الحب النقي الصافي دون أن نجعل لذلك أثمانا، فالإنسان صنع شبيهه من الروبوتات ولكنه عجز عجزا فظيعا ليجعلها تمتلك عاطفة الحب، إنسان اليوم شبيه بالآلة فقد الروح المعطاء، وليس لديه شيء دون مقابل، فلنجعل العواطف والأحاسيس دون ثمن لنصمد من خلالها أمام تيار التعليب المتصاعد بوتيرة كبيرة.