نخاف على الجزائر ومصر من نفسيهما وليس من تقليد النموذج السوري

سقط نظام بشار الأسد في “الموسم الثاني” من الانتفاضة عليه. تعلمت القوى المناهضة للأسد الكثير لتصل إلى المستوى الذي يمكّنها من التحرك السريع والفعّال لتوجيه ضربة قوية للنظام لم تكن بحاجة إلى توجيه غيرها. كان سقوط النظام سريعا جدا بحيث عجز أقرب حلفائه عن التحرك لمساعدته. في الأيام القليلة التي فصلت بين دخول مقاتلي هيئة تحرير الشام مدينة حلب، والإعلان عن اختفاء الرئيس وعائلته من دمشق، كان القادة في طهران وموسكو قد بدأوا بإرسال مبعوثين لمعرفة ما يحتاجه النظام. كان واضحا لمخضرم مثل وزير خارجية إيران عباس عراقجي أن النظام في أيامه الأخيرة. الروس خرجوا بانطباع مشابه. قوة النجدة الوحيدة التي وصلت كانت بضع مئات من بقايا مقاتلين من حزب الله حاولت منع قطع الطريق بين دمشق ومدن الساحل. لكن دمشق سقطت بيد المعارضين من دون الحاجة إلى تشديد الخناق عليها. النظام كان مهترئا بالكامل. كان “الموسم الأول” من الانتفاضة قد استكمل الحكاية تماما، ولم يتصور أحد أن بداية “الموسم الثاني” ستكون لعصر جديد ومعطيات جديدة.
يجلس النظام الجزائري اليوم متخوفا من تكرار نفس السيناريو السوري. صمد نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من دون بوتفليقة نفسه. أجرى عمليات نفخ وشد لتغيير بعض ملامح وجوه النظام. كان من الصعب الإبقاء على وجه بوتفليقة لأنه توقف عن الحركة والنطق، فصار من الضروري التغيير والإتيان بوجه جديد. وساعد وباء كوفيد في ترسيخ الفجوة البصرية الفاصلة بين وجه بوتفليقة ووجه خليفته عبدالمجيد تبون. ثم تدخل القدر فأزاح قائد الجيش أحمد قايد صالح، واستبدله بسعيد شنقريحة. مع “الموسم الثاني” من انتفاضة “الحراك” الجزائرية بدت الغاية من الحراك كما لو أنها تحققت وأن الجزائر على وشك الدخول في عصر جديد، بانتخابات حرة وزعامة جديدة.
◄ القلق الجزائري والتخوف المصري من تكرار ما حدث في سوريا في البلدين يضعاننا أمام واقع مؤلم للطريقة التي توجه بها وتدار بلدان محورية في المنظومة العربية
لكن شيئا من هذا لم يحدث. الجزائر ظلت على حالها، ولا تزال البلاد على جمودها وعجزها عن الإتيان بالتغيير. التخوف الحالي من انتقال الانتفاضة من الشرق إلى الغرب له ما يبرره. الجزائر (ومصر أيضا)، أمام لحظة انطلاقة الموسم الجديد مع اقتراب الإسلاميين من السلطة.
الإشارة العرضية إلى مصر أعلاه قد لا تخدم كل تفاصيل الموسم الجديد. مصر تختلف كثيرا عن الجزائر. لكن ثمة عوامل جامعة كثيرة، أهمها أن مهمة إرساء الأمن تركت للجيش، في حين تكفل الحلفاء بتوفير الدعم المالي والنفسي للنظام. الجزائر استفادت من عامل مساعد هو ارتفاع أسعار الطاقة عالميا ما انعكس إيجابيا على الميزانية. مصر كانت تحتاج إلى المال الإماراتي والسعودي والكويتي (اشتغل المال القطري ضدها). العوامل النفسية كانت إعلامية بالدرجة الأولى، وصمد النظام في الجزائر لاعتبارات كثيرة أهمها الخوف الإقليمي من تداعيات انهيار بلد كبير ومسلح إلى حد أسنانه مثل الجزائر، في حين شن الإخوان حملة إعلامية ونفسية قد تكون الأكبر في تاريخ المنطقة والعالم لتشويه سمعة الجيش المصري وسمعة حلفائه.
الجزائريون قرأوا بعض ما حدث بمنظار خاطئ فخرجوا باستنتاجات خاطئة. فذات مرة، عندما كنت أتحدث مع قيادات سياسية مغربية كبيرة عن قراءة الجزائريين الخاطئة للموقف المغربي، قال لي محدثي “لو كانوا يعرفون كم نحن حريصون على استقرارهم ومسعانا تأمين حدودهم، لكانوا قد سحبوا جيشهم من الحدود بيننا.” وأضاف محدثي “هل ترى الأزمة الليبية؟ لو انهار الوضع في الجزائر، فستكون أمامنا ليبيا أكبر بعشرة أضعاف أو عشرين ضعفا. نحن نحرص على الأمن القومي الجزائري بما لا يقل عن حرصنا على أمننا القومي.” بالطبع لا تزال عقدة الجزائريين حيال المغرب كما هي، ولا يستطيعون اعتماد النقد الذاتي ولو لبعض الوقت للخروج بالاستنتاجات الصحيحة.
◄ أي محاولة لقراءة الوضع الجيوستراتيجي من بوابة العالم المتغير هي أزمة لا يتردد الدبلوماسي الجزائري في ربطها بالصراعات الدائرة في شرق البحر المتوسط
من بين التفسيرات القديمة التي تُستعاد قصة استفادة كبار الجنرالات الجزائريين من التسيب الأمني والمالي في مخيمات تندوف. لكن هذه الاستعادة تسقط سقوطا مدويا اليوم أكثر من أي وقت سابق. الجنرالات يستفيدون من الأموال التي تستنزف ميزانية الجيش، لكن المثال السوري يرينا أن هذه الأموال بلا قيمة لأن كل شيء مراقب الآن عالميا ولا يمكن القول بأن الجنرال سيهرّب أمواله ويهرب. ها هو الجنرال السوري يهرب دون ماله. لا يخسر فقط المال، بل سمعته ومهمته وكرامة الدولة التي يخدمها. يد الجنرال الجزائري على قلبه، لأننا نبصر ما يمكن أن يحدث له.
كل مطابقة بين النموذج السوري والنموذج الجزائري تبوء بنتائج تزيد من حجم القلق. المعارضون الجزائريون، وخصوصا منهم الذين لم يحملوا قط السلاح في وجه النظام الجزائري، يسألون السلطة اليوم لماذا السير المتعمد عكس حركة التاريخ والإصرار على استضافة التاريخ على جانبه السيء، باعتماد التسيير الأمني، وهو ما لم يكن يريده الحراك. وإذا كان الحراك قد سكت لإعطاء الفرصة للثنائي تبون – شنقريحة، فهذا من باب منح الفرص وليس لشراء الوقت لأي طرف من الأطراف. الأمين الأول لجبهة القوى الاشتراكية يوسف أوشيش كان يدرك -وهو يتحدث في مؤتمر الجبهة بالأمس- أنه يلامس عصبا حساسا. حتى عندما تجنب التلميح المباشر للتشابه بين النظامين الجزائري والسوري، فإنه يذكر الغضب الشعبي المتزايد ليس فقط على الوضع الاجتماعي والمعيشي، بل أيضا على موقع البلاد المتراجع إقليميا مع بيئتها الطبيعية في شمال أفريقيا والساحل، وبالامتداد نحو البحر المتوسط وجنوب أوروبا، وخصوصا فرنسا وإسبانيا.
ما حدث أمس هو تكرار للقراءات الخاطئة. مرة أخرى تتوهم السلطات الجزائرية أن العالم كله يتآمر عليها. تقول الصحف الجزائرية إن السلطات استدعت السفير الفرنسي ونبهته إلى “المخططات العدائية” لجهاز الاستخبارات الفرنسية وإن الجهاز ضالع في تجنيد الناشطين الجزائريين (أو الإرهابيين على حد وصف إحدى الصحف الجزائرية الرسمية) للعمل على استهداف أمن البلاد واستقرارها.
◄ الجزائر ظلت على حالها، ولا تزال البلاد على جمودها وعجزها عن الإتيان بالتغيير. التخوف الحالي من انتقال الانتفاضة من الشرق إلى الغرب له ما يبرره
لا تستطيع الجزائر أن تفهم كيف تغير العالم ومدى هذا التغير. في كل مرة، نرجع ونعود إلى نقطة الصفر. لا أستغرب من مجرد أن يرى الجنرال الجزائري الكهل في ضابط أفريقي شاب من دول الساحل يقود التغيير في بلاده وجها من المؤامرة غير مقبول لديه، أو أن يعتبر تغير معطيات التجارة والعلاقات وجها من وجوه حرب اقتصادية تستهدف مصدر دخله الأساسي، أي النفط والغاز. ما يجري من تبدلات في طريقة إدارة الجيوش والقوات المسلحة لحماية الأمن القومي للبلدان، يعد انتهاكا، طالما لم يتم بالوسائل التقليدية السابقة. بل إن أي محاولة لقراءة الوضع الجيوستراتيجي من بوابة العالم المتغير هي أزمة لا يتردد الدبلوماسي الجزائري في ربطها بالصراعات الدائرة في شرق البحر المتوسط، وإن ما حدث هناك، في دمشق وبيروت، سيحدث هنا.
أقسى ما في القراءة الجزائرية هو جمودها وقدرة هذا الجمود على منافسة حتى قراءة إيران أو حزب الله (وربما قراءة بشار الأسد نفسه لو تمكنا من معرفة مكانه ووافق على إجرائنا مقابلة معه)، اللذين يبدوان أكثر تقبلا لحقائق التغيير الجاري في المنطقة والعالم وأكثر استعدادا للتعلم من دروسه. لعلنا نعرج في قادم الأيام على مناقشة كيف يظهر المصريون تخوفهم مما حدث ويحدث، كما جاء على لسان وزير الدفاع المصري عبدالمجيد صقر عن أخطار ماثلة ومحتملة تستهدف البلاد، أو من تعليمات باستبعاد السوريين ممن يحملون إقامات في بلدان أوروبية من دخول مصر خوفا من اندساس الإخوان بينهم. هذه أعراض من مرض الهواجس ذاته الذي أصاب الجزائريين ولا نجد له علاجا.
القلق الجزائري والتخوف المصري من تكرار ما حدث في سوريا في البلدين يضعاننا أمام واقع مؤلم للطريقة التي توجه فيها وتدار بلدان محورية في المنظومة العربية. ثمة الكثير مما يمكن أن يقال عن الحادث في منطقتنا وإلى أين ستؤول الأمور. هذه المرة نقلق على الجزائر مثلما نخاف على مصر من نفسيهما. “الموسم الثاني” من “الحراك” و”كيد الإخوان” يتربصان.