نجاد البرعي مصري مشاكس يقوم بدور حزب معارض

لا يختلف كثيرون على ضعف أداء أحزاب المعارضة المصرية، وافتقادها للجرأة والشجاعة لمقارعة الحكومة والوقوف بوجهها لتعديل سياساتها وتوصيل صوت الشارع إلى دوائر صناعة القرار. ووسط هذه العتمة، تبرز شخصيات لديها خبرة تقوم بدور الحزب المعارض.
من هؤلاء نجاد البرعي، المحامي البارز والحقوقي المشاكس، الذي يصنف بأنه من القلائل الذين يصوبون سهامهم تجاه السلطة في مصر بجرأة دون أن يطاله استهداف، وقد يتعرض لمضايقات وانتقادات من قبل بعض وسائل الإعلام، لكنه في كل مرة يخرج من الأزمة قويا.
شبكة علاقات واسعة
لديه قاعدة علاقات قوية مع منظمات محلية وأجنبية معنية بحقوق الإنسان، فهو من النشطاء البارزين الذين لديهم سجل حافل بالمعارك مع الحكومات في هذا الملف، واكتسب شعبية عند بعض قوى المعارضة.
طوال أكثر من أربعين عاما قضاها في مهنة المحاماة بعد تخرجه في كلية الحقوق جامعة القاهرة، عُرف عنه شغفه بقضايا الحقوق والحريات ودفاعه عن المتهمين في الأحداث المرتبطة بالرأي والتعبير، واقترب من حكومات وابتعد عن أخرى، لكنه لم يترك العمل الأهلي. وبعد صدور اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات الأهلية، من المتوقع أن يتنامى دوره في المجال الحقوقي، حيث تصبح الساحة مهيأة للعمل.
انتُخب من قبل أمينا للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وأمينا للشبكة العربية للديمقراطية، قبل أن يشارك ضمن فريق وزارة العدالة الانتقالية عقب سقوط حكم الإخوان، ويُختار عضوا باللجنة الوزارية المعنية بتعديل قانون الجمعيات الأهلية، وعضوا بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، حتى استقال منه عام 2014 لقناعته بأنه “ليس له أهمية ويمارس دور الشاهد الغائب”.
نأى بنفسه عن الارتماء في أحضان المعارضة، وحرص على أن يؤدي دوره في حدود المسموح به من أيّ شخصية وطنية تخشى على بلدها من الوقوع في دوامة الفوضى والتدخلات الأجنبية، فتراه يتحدث بنبرة تكاد تقود صاحبها إلى خلف أسوار السجون، لكنه يطعمها بعبارات تحمل نصحا ومشورة لصانع القرار السياسي.
دهاء سياسي أم حقوقي
يكفي التدقيق في مقالاته الصحافية وتدويناته على حساباته الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي لاكتشاف حجم الدهاء، فقد يكتب تلميحات خطيرة عن جهات وأشخاص بعينهم داخل السلطة، لكنه لا يسميهم أو يتطرق إليهم صراحة، ويعرف الجميع مقصده ونواياه، وعلى من يتحدث، فعندما يضيق الخناق السياسي يمارس المعارضة عن بُعد.
معركته الدائمة مع الحكومة بسبب إصرارها على التعامل مع ملف الحريات وحقوق الإنسان من وجهة نظر ضيقة، وعدم سماعها لأصحاب الرأي والتخصص والناشطين من الأصوات الوطنية، في حين أنها تصدق كل ما يثار عنهم من كونهم أصحاب مصالح ومتآمرين ولديهم علاقات مشبوهة مع جهات أجنبية يحققون أهدافها الهدامة.
هناك جهات حكومية لديها قنوات اتصال مباشرة مع البرعي، وتستمع إلى رؤيته ونصائحه في ما يتعلق بالحلول الممكنة لملف الحريات وحقوق الإنسان، رغم نبرته الحادة في أوقات كثيرة، حيث تعتبره من العقلاء الذين يمكن الجلوس معهم والتباحث حول مخرجات بعينها لقضايا شائكة أحدثت منغصات للحكومة.
البرعي ينصح بأن تتوقف الحكومة المصرية عن دفع الملايين لشركات العلاقات العامة لتحسين صورتها في الدول الغربية، مع أنها تستطيع تحقيق ذلك مجانا من خلال إجراء تحسينات طفيفة على الأوضاع
في ذروة الهجوم من منظمات دولية على الحكومة إبان القبض على قيادات المبادرة المصرية لحقوق الإنسان في ديسمبر الماضي، كان نجاد البرعي ضمن من قادوا الوساطة مع أجهزة أمنية رفيعة المستوى بالدولة للإفراج عن الشخصيات الموقوفة، حتى تحقق المراد وأخلي سبيلهم.
يمكن البناء على الواقعة بأن النظام المصري لديه قناعة بضرورة الانفتاح على منظمات حقوق الإنسان، ويبحث عن شخصيات محل ثقة ومصداقية، والأهم أن البعض من الدوائر الرسمية لديهم مرونة وحس سياسي بشأن ضرورة تحسين الصورة القاتمة عن الحريات، وأن هذا الأمر ليس صعبا، ويحتاج لطريقة متقنة في الإخراج.
يتحرك البرعي في مساحة محدودة ومهمة، حيث يتعمد أن يبعث برسائله إلى الدوائر المعنية بالملف الحقوقي داخل النظام، ويدرك مدى قناعتها بحتمية وجود أصوات مختلفة ولو كانت نبرتها حادة، لأن ذلك السبيل الأمثل لظهور السلطة بصورة إيجابية، بدليل أنها تركت شخصا مثله يتحرك ويطلق سهامه على الحكومة.
مع تعرضه لحملات إعلامية تتهمه بالعمالة والخيانة والتربح من جهات أجنبية، كان يرد بشكل ساخر، دون أن يبادر بمقاضاة هذه الصحيفة أو هذا البرنامج، ويعلق على ذلك بأن القائم على إدارة هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك مغلوب على أمره. ما جعله يحظى بقدر معقول من المصداقية، وعدم قدرة أيّ جهة أو تيار على أن يحسبه على فريق معارض بعينه، فهو شخصية تجيد تسويق نفسها وسط الأحداث الساخنة، ويستطيع ترك بصمة عند كل الأطراف، ولو كان مختلفا معها، لكنه بإمكانه أن يترك عن نفسه انطباعا مغايرا يدفع المعارضين إلى مراجعة حساباتهم معه.
يصف البعض البرعي بأنه “متآمر وشخصية هدامة تعمل لحساب الإخوان”، وهو يرد بذكاء ليفاجئهم بأنه يشيد ويثني على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في مواجهة جائحة كورونا ويصفها بالمثالية، في حين أن دولا كبرى عجزت عن مواجهة الوباء بهذه الحنكة.
ورغم اتهامات كثيرة تطاله بأنه رجل المنظمات الأجنبية الحقوقية في مصر، لكنه يرد على هذه الأصوات في ذروة اشتداد الضغوط الدولية على القاهرة بسبب أزمة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، منتقدا التسلط الغربي على الحكومة المصرية، ويرى أن التربص قد يفضي إلى إدانة أبرياء في القضية، مطالبا الغرب بضرورة الثقة في القضاء المصري.
يمارس البرعي دوره كمعارض مستقل، لا يسمح لنفسه بأن يكون في صف طرف على حساب الآخر، أو أن يكون تابعا لجهة بعينها، واعتاد أن يكون رأيه من دماغه، فإذا حاولت أجهزة بعينها لديها حساسية مفرطة مع الصوت المختلف أن تصنفه كإخواني، تجد في سجلاته القديمة هجوما ضاريا على الجماعة وإرهابها ومحاولة هدم الدولة.
ما يثير تحفظات جهات كثيرة على أدائه أنه ينتفض لمجرد القبض على أيّ شخص لا يقتنع بالتهمة المنسوبة إليه، سواء أكان سياسيا أم عاديا، أو صحافيا في جريدة لا تتوقف عن الهجوم عليه، وتراه يتبرع بالدفاع عنه أمام النيابات والمحاكم ويطلق مناشدات لرئيس الدولة للإفراج أو المطالبة بإسقاط التهمة.
سبب تحفظ الجهات العديدة على أداء البرعي أنه ينتفض لمجرد القبض على أيّ شخص لا يقتنع بالتهمة المنسوبة إليه، سواء أكان سياسيا أم عاديا، أو صحافيا في جريدة لا تتوقف حتى عن الهجوم عليه شخصياً
يصنفه كثيرون بأنه الرقيب الحقوقي الأبرز على أداء الجهاز الأمني في مصر، وصاحب مبادرة أن تكون هناك رقابة على رجال الشرطة قبل التفكير في النيل من أي مواطن، في السجن أو أقسام الشرطة، حيث تقدم بمشروع قانون تحت عنوان “مناهضة التعذيب”، وأرسله مباشرة إلى رئيس الجمهورية ومجلس النواب السابق.
استدعي البرعي على إثر هذا التحرك للتحقيق معه أمام النيابة خمس مرات بتهم مختلفة، بينها تأسيس مجموعة قانونية غير مرخصة بغرض التحريض على مقاومة السلطات وممارسة نشاط حقوق الإنسان دون ترخيص، وتلقّي تمويلات خارجية وإذاعة أخبار كاذبة، وتكدير الأمن العام، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة، لكنه خرج من كل ذلك بسهولة.
اعتاد تقديم ما يشبه الخطوط العريضة أو رسم خارطة طريق يمكن من خلالها التوصل إلى تفاهمات لما يشوب الواقع السياسي من تعقيدات، بشكل يخفف الضغوط الخارجية، ويسمح بوجود معارضة داخلية متزنة تستطيع توصيل صوت الشارع بعقلانية. ومن ضمن نصائحه أن تتوقف الحكومة عن دفع الملايين من الجنيهات لشركات العلاقات العامة لتحسين صورتها في الدول الغربية، مع أنها تستطيع تحقيق ذلك مجانا من خلال إجراء تحسينات طفيفة على الأوضاع، مثل فتح المجال الإعلامي والسياسي واحتواء المعارضة الوطنية والسماح للمجتمع المدني للعمل بحرية تامة. وهو مقتنع بأن بعض الجهات بإمكانها جعل المؤسسات الحقوقية في مصر عاطلة ولا تجد شيئا تفعله شريطة احترام الدستور والقانون والكف عن ملاحقة العاملين في مجال حقوق الإنسان، وملاحقة مرتكبي الانتهاكات وتقديمهم إلى المحاكمة العادلة، وحينها سوف تكون الحكومة مرتاحة من الضغوط والمنغصات، وليست بحاجة لشراء صورتها الحسنة بالأموال.
نقاشات محظورة
ما يثير استغراب البرعي أن الحكومة لديها استعداد للنقاش حول أي من السياسات الاجتماعية والاقتصادية، إلا ما يرتبط بالحريات وحقوق الإنسان، فهي تقبل النقد والمراجعة وتطلب النصح من المتخصصين حول إجراءاتها، وتضع جملة من المحظورات أمام أي نقاش حول الحريات المدنية والسياسية.
لا يمل الرجل من التطرق إلى ما يوصف بالمحظورات أحيانا، حيث يطالب في مناسبات مختلفة بالإفراج عن المحبوسين احتياطيا طالما ليسوا مدانين بتهم ثابتة، وإدراج صناع ثورة 25 يناير في الحياة العامة وخروجهم من السجون بعفو رئاسي.
تلخَّص معركته مع الحكومة في أنها تريد أن تصنع مجتمعا مدنيا يتوافق مع مشروعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكنه يعارض هذه الرؤية، ويعمل على تغييرها ويتمسك بوجهة نظره على أمل أن تدرك أجهزة الدولة أن مصر لا يمكن أن تصبح دولة متطورة ومبدعة دون مجتمع مدني قوي.
المثير أن البرعي لم يفقد الأمل في التغيير، ولم يتأثر بالضغوط، ويبني مواقفه على الماضي، ويذكر المؤمنين بوجهة نظره بأن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يفرج عن الشيوعيين إلا بعد شد وجذب ثم حوار انتهى بخروجهم وقادتهم من السجون.
البرعي حين يوصف من قبل البعض بأنه متآمر و"شخصية هدامة تعمل لحساب الإخوان"، يرد بذكاء مشيداً بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة في مواجهة جائحة كورونا، في حين أن دولا كبرى عجزت عن مواجهة الوباء بهذه الحنكة
يرفض التعويل على الضغوط الغربية لتحسين واقع الحريات المدنية والسياسية وحقوق الإنسان في مصر، لأن التغيير لو لم يأتِ من الداخل، فلن يتحقق، وقال عن ذلك “لا انتخاب جو بايدن ولا بقاء دونالد ترامب ولا وجود ميركل ولا كلمات ماكرون سوف تصلح شيئا، لأن هؤلاء يهتمون بمصالح دولهم ويبحثون عمّن يحققها فقط”.
يعوّل فقط على وجود تيارات داخل الدولة تريد معارضة لديها إدراك لوضع مصر الإقليمي والدولي، ويعيش على أمل طرح فكرة الحوار والوصول إلى تفاهمات قائمة على الشراكة الوطنية، لكن المعضلة التي تقف في وجهه، وأعلن عنها صراحة، أن هناك من يريد اختفاء السياسيين القدامى واستبدالهم بمعارضة جديدة.
يتمسك الحقوقي المشاكس بتوصيل رسائله بطريقة حادة قائمة على الترهيب من المستقبل أحيانا، ويعلق على المشروعات التنموية بعبارة واحدة مفادها “ما يجب أن يعرفه الرئيس أن البيئة السياسية هي الوحيدة الحاضنة للسياسات الاقتصادية، وبدون توافق وطني، فلا نهضة ولا تنمية”.
يُحسب للبرعي أنه لم ينسحب من المشهد كما فعلت أحزاب وقوى سياسية أخرى انكفأت على نفسها بعدما فقدت الأمل في التغيير، وفضّل أن يواصل المهمة دون ظهير إعلامي أو حزبي، ويعيد تعريف الدولة بأعدائها الحقيقيين ويحصرهم في الإخوان، وما دون ذلك هم من الفصائل الوطنية، مصرّاً على أن تكون له بصمة واضحة في اهتداء الحكومة إلى المسار الذي تعرف من خلاله بالضبط من أين تأتيها الضربات، لتحدد كيف تواجهها وتتغلب عليها، لتنتقل من حالة محاربة الجميع إلى مبارزة الأعداء فقط.