نجاة عبدالصمد: ليس لزاما على الأدب أن يواكب روزنامة التاريخ

للكبار أن يتسلّوا بالحروب ليتراكم ثراؤهم، ولينجوا من الملل. ولنا نحن الأرضيين أن ننفذ من مصائدهم ونخلق الفرح اللائق بنا. هذا الحنان هو اللغز الخفيّ في معادلة الحرب العسيرة، حنان ينبت فينا على غير انتظار، يقابل شناعة الحرب، يبقينا أحياء ونحن نفتش بين أكوام اللظى والركام عن بقيّة باقية تربطنا بالعيش، فلا نستسلم كالطرائد المنهكة.
بهذه الكلمات تبدأ الطبيبة والكاتبة السورية نجاة عبدالصمد حديثها لـ”العرب”، قبل “في حنايا الحرب” أصدرت نجاة كتابها “غورنيكات سوريّة” الذي تصفه بأنّه حادث كتابيّ، قبل الزلزال السوريّ لم يكن في رأسها لا موضوع الرواية ولا أيّ من شخوصها الهامشيين النبلاء الذين هم ملح البلاد كما تقول عنهم، كانوا حولها ولم تكن تراهم بتلك العين التي تنصف نبلهم في مواجهة الحرب/ الكارثة، أو “ارتقاءهم إلى حتوفهم باسمين”، هؤلاء الذين -كما تقول مقدمة الكتاب- صاروا في محنة سوريا أبطالا أو ملائكة.
الكتابة في الحرب
ترى هل ننجو من العاطفية حين تقع الحرب عند عتبة بيوتنا؟ بهذا التساؤل تردّ ضيفتنا على من يطالب الأدب بالانتظار حتى اكتمال المشهد ونضوج الحدث، لتتابع نجاة إنّه في الحرب أو في السلم، مهمّ كيف تكتب ربما أكثر من: عمّ تكتب؟ جمالية المكتوب وصدقه تنهض به حتى وإن لم ينج تماما من مطب الشبه بالتقارير الصحفية.
ضيفتنا قدّمت عملين عن الحالة السورية اليوم، أسألها عن خشيتها أن يتم تصنيفها ضمن طرف من أطراف الصراع، ذلك التصنيف الذي قد يضع الأديب في مأزق في ما بعد لتقول ضيفتنا: إن كان المقصود بـ “أطراف الصراع”: أبناء البلد، والاستبداد السياسي والعسكري والدينيّ الذين ينكّلون به على التوازي والتوالي. فأبدا هي لا تخشى أن تحشر بين أبناء بلدها ضد الأخيرين جميعا، فالقضيّة عندها ليست مجرّد قضيّة كتابية، إنها هاجس حياة، هي خيارها في الانتصار لإنسانيّتها كما تقول.
“بلاد المنافي”، رواية نجاة عبدالصمد التي لبست عباءة مسقط رأسها في جبل العرب، أسألها عن البيئة التي تشكّل حاضنا للمخيال الأدبي عند الكاتب، لتقول ضيفتنا إنّ مسقط الرأس مكان- قدر لا بطولة في نكرانه.
مهمة الأدب في كل الأوقات الجمال، ووظيفته الإمتاع، ليستجلب من التاريخ ما يعرّي الحاضر، ويغري بغد أكثر إنسانية
سيظلّ يسكننا سواء بقينا فيه أو غادرناه. ربما دوام العيش فيه يسكّن الشحن العاطفيّ أكثر بكثير من فراقه. ونحن في الحالتين نطلّ عليه من نافذتين: نافذة العين التي ترصد واقعيّة أرضه وناسه، ونافذة القلب التي تفكّكه وتختار لنفسها من مقلعه مادتها الروائية. حزّورة تفكيك المكان على طريقة الكاتب بوصفه إنسانا هي الأعقد، فهو الحاضر دوما حتى حين لا يستدعيه أحد، وهو العنيد في العصيان حين يتعرّض للطرد.
حديثها عن “بلاد المنافي” إضافة إلى دراستها للطب في روسيا وترجمتها لبعض الأعمال الأدبية الروسية إلى العربية، دفعني إلى سؤالها عن تأثر الرواية العربية بالكتابة الروسية بأنماطها الكتابية المختلفة، لتقول إنّ الأدب الروسي أدب خالد خطّه دوستويفسكي، وبوشكين وتولستوي وتشيخوف، وأتى بعده أدب الحرب الوطنية العظمى الذي خطّته أقلام كثيرة من قوميات مختلفة في العهد السوفييتي، حيث كانت الجبهة السوفييتية هي الأشدّ عنفا في الحرب العالمية الثانية -قبل القنبلتين النوويتين الأميركيتين على اليابان- حيث كان على السوفييت أن يخوضوا الحرب دفاعا عن وجودهم ضد الغزو الهتلري، هذا التاريخ الذي تسرده ضيفتنا عاينت نتائجه خلال سنوات دراستها للطب حيث عايشت عن قرب عشرات من معطوبي الحرب، كانت خسائرهم أوجع بكثير من أن تنسى كما تقول، تلك الخسارات الفادحة كتبت على يد شولوخوف وتولستوي وأستروفسكي وبونداريف وكثيرين غيرهم واستطاعت أن تترك بصمتها العميقة في الأدب العالميّ، بحيث صارت تلك الأعمال جزءا مهمّا من المخزون الثقافيّ للأجيال العربية بعد أن تمّ الاشتغال كثيرا على تعريبه وتسويقه على يد أحزاب اليسار.
تتابع ضيفتنا أن انهيار النظام الشيوعي سياسيا ومجتمعيّا أدّى إلى تخلخل الآداب الروسية المعاصرة، لتشتغل على ارتهان الإنسان إلى ظواهر ما وراء الطبيعة وتسييرها إياه أكثر مما قد يسيّره عقله. هنا في هذه النقطة لا تعتقد الروائية نجاة عبدالصمد أن لدى هذا الأدب مقولات مهمّة يضيفها إلى معارفنا، في ظلّ تراجع حركة الترجمة عن الروسية إلى العربية ما أدّى إلى شبه قطيعة أدبية ومعرفية معاصرة بيننا وبينهم في الوقت الحاضر.
|
الأدب والأحداث المهمة
حديث ضيفتنا عن المفاصل التاريخية المهمّة دفعني إلى سؤالها عن دور الأدب في التعبير عن تلك اللحظات وتوثيقها، لتقول إنّه ليس لزاما على الأدب عموما أن يواكب زمنيّا روزنامة التاريخ. فتلك وظيفة المؤرّخين، إنما قد يحمل الأدب صفة التوثيق حين يخدم الحدث التاريخيّ ضمن بنيان الكتابة، في هذا الإطار تضرب مثالا “المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا، فما إن يتناول القارئ هذه الرواية، حتّى يتفهّم حال “أبي عبدالله الصغير” آخر ملوك غرناطة الذي وصمه التاريخ بعار سقوطها وشماتة أمه ببكائه كما النساء ملكه المضاع، إن غالا يحمل القارئ على التعاطف مع الملك الباكي لكونه كان أكثر الملوك صدقا وشفافية مع نفسه حين يبوح أنه تولّى عرشا لا يعنيه ولا يحمل وزر الدفاع عنه لأنّ أحدا لم يصغ إليه حين صرخ أنه ليس حملا لهذا العرش.
في ظل الوقت الحاضر تقول ضيفتنا عن مهمّة الكاتب، إنّ الجمال مهمة الأدب في كل الأوقات، ووظيفته الإمتاع. يوسّع الأدب رؤية الإنسان وهواجسه وأسئلته عن تناقضات الوجود. ليست مهمته إيجاد الحلول أو ترسيخ الوصايا العشر، بل أن يستجلب من التاريخ ما يعرّي الحاضر، ويغري بغد أكثر إنسانية، لذلك يحرص الكاتب على ورود الأفكار كلها في سياق جماليّ، وأن يكون ذاته لا سواها، وأن يكون صادقا حتى لا يكون للصدق مكان سوى في الأدب.
أسألها عن سوريا في ظلّ مخاضها العسير، فتقول: إنّ تلك البلاد طفلتها التي لن تنجبها، لأنّ الجذام يأكل أطرافها ويسعى إلى قلبها. مكان النجاة هنا، لصقها، فيها، ترجو لو تكون الجرس الرنّان حول عنقها المخنوق بالألم، لا اليد التي ترمي إليها عن بعد بلقمة مغمسة بالمهانة.