نادية عبده أول "محافظة" تحكم معقل السلفيين

السبت 2017/07/01
نادية عبده امرأة يتوقف على نجاحها مستقبل المرأة المصرية في الإدارة

القاهرة- سنوات طويلة أمضتها المرأة المصرية في الكفاح لنيل حقها في تولّي المناصب القيادية في الدولة، لكن كانت تصطدم دائما برفض سياسي ومجتمعي إما لسيطرة العقلية الذكورية على زمام الأمور أو لوجود توجه عام رافض لفكرة العمل تحت قيادة امرأة في منصب قيادي، علاوة على انتشار الأفكار السلفية والإخوانية التي ترى في وجود المرأة في هذه المناصب مخالفة للدين والشريعة.

المُحافِظ في مصر أعلى حاكم محلي في البلاد، وبعد مرور عدة أشهر على تعيين نادية عبده كأول مُحافِظة في تاريخ مصر لشغل هذا المنصب، من الواجب إمعان النظر في تصوراتها وتصرفاتها ومدى ما تحقق من توجه عام نحو ترسيخ مدنية الدولة وتصعيد المعركة السياسية مع التيارات الإسلامية المعادية، لأن المحافظة التي ترأسها نادية معروفة بأنها تضم شريحة كبيرة من التيار السلفي في مصر.

ما ساعد الحكومة المصرية على الدفع بهذه السيدة كأول حاكم محلي في محافظة البحيرة، شمال القاهرة، أنها شخصية قيادية معروفة، وحققت طفرة ملموسة في العمل المجتمعي والعام خلال توليها منصب نائب المحافظ بذات المحافظة في أغسطس 2013 ولم يشعر أحد بأنها امرأة ضعيفة تخشى المواجهات، بل سيدة شجاعة في مواجهة الملفات الصعبة.

اختيار امرأة لتولّي منصب المحافظ في فبراير الماضي بإحدى أكثر المحافظات التي تشهد نشاطا للتيار الإسلامي، حمل رسالة سياسية قوية لأنصاره، الأكثر أنها محل إقامة يونس مخيون رئيس حزب النور الذراع السياسية للسلفيين.

تعيين نادية عبده حاكما محليا كان بمثابة جمرة النار التي أشعلت من خلالها الحكومة غضب المتشددين وسعوا للانتقام بطريقتهم الخاصة، فالإخوان فتشوا في دفاترها القديمة وتاريخها السياسي عندما كانت عضوا في البرلمان عن الحزب الوطني الحاكم إبان فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقالوا إن حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي تعيد إحياء نظام مبارك وما زالوا حتى الآن يحاربون السيدة في كل قرار تتخذه.

تعامل السلفيون مع الأمر بنظرة دينية وعددوا الفتاوى وانتقوا الأحاديث النبوية التي تتفق مع نهجهم الرامي إلى عدم مشروعية تولّي المرأة للمناصب المهمة في الدولة، وأصدرت حركة “دافع” السلفية (إحدى أذرع الجماعة السلفية) بيانًا اعتبرت فيه أن تولّي المرأة المنصب أمر لا يجوز في الشرع، وبررت ذلك بحديث نبوي كانت له مناسبة بعينها ويقول “لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”، واستدلت على أنه لم يؤثر عن النبي محمد ولا الخلفاء الراشدين أن استنابوا امرأة في ولاية أو قضاء.

أصر السلفيون في بياناتهم ضد نادية عبده على التقليل من مكانة المرأة وقالوا إنها لا تصلح حتى لولاية الأسرة، بدليل أن ولاية المنزل في عصمة الرجل، والله لم يتركها للمرأة كونها تتمتع بطبيعة مختلفة فسيولوجيا وسيكولوجيا، فكيف بولاية عامة كمحافظ؟

السلفيون يواجهون نادية عبده، منذ البداية، من خلال نظرة دينية معددين الفتاوى والأحاديث النبوية التي تتفق مع نهجهم الرامي إلى عدم مشروعية تولي المرأة للمناصب المهمة في الدولة، حتى أن حركة "دافع" السلفية (إحدى أذرع الجماعة السلفية) أصدرت بيانا اعتبرت فيه أن تولي المرأة المنصب أمر لا يجوز في الشرع، وبررت ذلك بحديث نبوي كانت له مناسبة بعينها ويقول "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"

وزادوا على ذلك بأنها لا يجب أن تظهر في المجالس ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير، ومحرّم أن تجتمع مع الرجال في مجلس تزدحم فيه معهم، وتكون ندًا لهم.

امراة حديدية

عبده تعاملت مع الهجمة الدينية المتشددة بهدوء شديد، وآثرت العمل في صمت، وردت بكلمات مقتضبة فقالت “اتركوا مصر لأهلها، واتركوا الدين لأهل الدين، اتركوا مصر تسير إلى الأمام، ولا تعرقلوا مسيرتها”.

اعتادت السيدة أن تبتعد عن الدخول في مواجهات تحمل طابعًا دينيّا أو طائفيّا حتى تقطع الطريق على كل التيارات المناوئة لها كي لا توقع بها في مصيدة السقطات الكلامية، وإن سئلت عن ذلك في لقاءاتها الإعلامية ترد بأنها في مهمة وطنية لا علاقة لها بما يثار من جانب أيّ تيار ديني، وليقولوا ما يشاءون، فالعبرة بالعمل.

لم تدخل عبده التاريخ بتوليها منصب المحافظ فحسب، بل سبق ودخلته عندما كانت أول امرأة تتولّى رئاسة شركة مياه في الوطن العربي، وشغلت منصب رئيسة شركة مياه الإسكندرية، “شمال مصر” لمدة 10 أعوام (2002 - 2012)، فهي تخرجت في كلية الهندسة قسم الكيمياء عام 1968، وحصلت على درجة الماجستير في الهندسة الصحية، وعضوية الجمعية العامة للمجلس العالمي للمياه، وعضو جمعية رجال أعمال الإسكندرية.

رشحتها محافظة الإسكندرية للحصول على جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للمرأة الإدارية العربية المتميزة، كما أنها أول رئيسة لمؤسسة جمعية مرافق الدول العربية “أكوا” بالانتخاب من 12 دولة عربية، وشغلت منصب نائب رئيس الهيئة العليا للحكماء للمجلس العربي الأفريقي للتكامل والتنمية، قبل أن ترشح من صندوق المرأة المسلمة والأفريقية للحصول على جائزة أفضل إنجاز علمي إنساني لمجهودها في مجال المياه والعمل الإنساني.

معروف أنها شخصية قوية تصبح حادة الطباع جدًا إذا رأت فعلًا يتناقض مع مبادئها، لدرجة أنها توصف وسط سكان المحافظة بأنها “المرأة الحديدية”، التي تسير على خط واحد لا يقبل القسمة على اثنين، لذلك يخشى الجميع ردة فعلها وقراراتها التي قلّما تتراجع فيها.

الإدارة في الميدان

المحافظة نادية عبده تسأل بائع خضروات وفاكهة عن الأسعار

ترفض عبده العمل المكتبي وتنظر إلى وظيفتها على أنها عمل ميداني بحت، لذلك يراها أهل البحيرة كل يوم وهي تسير في الشارع وسط المارة تسأل عن أحوالهم، وتتحاور مع الباعة بشأن أسعار السلع، وأحيانًا تنهرهم بشدة غير عابئة بردّ الفعل الذي يتبع هذا الموقف، فالمهم عندها أن ذلك سوف يحمي البسطاء من بطش التجار والبائعين الذين يتعمّدون رفع الأسعار دون مبرر.

انتشر مؤخرا فيديو لها على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تسأل بائع خضروات وفاكهة عن الأسعار، وعندما أجابها، ووجدت أنه يغالي في السعر، قالت له “أنت حرامي وتسرق الناس”، وكان ذلك في وجود عشرات من المواطنين، وأصدرت قرارًا بوضع تسعيرة على كل السلع التي تباع للجمهور، ومن يخالف ذلك يتعرض متجره للغلق الفوري على أن يكون هناك هامش ربح بسيط لكل سلعة.

تدرك جيدًا أنها كأول امرأة يُسند إليها منصب المحافظ سوف تكون تحت المجهر طوال الوقت من جانب التيارات السياسية والدينية والفئات المجتمعية بل والحكومة نفسها أيضًا، لأنها تسعى للرد العملي والواقعي على من انتقدوا النظام بسبب اختياره لامرأة لتولّي هذا المنصب، وتريد أن توجه رسالة قوية إليهم بأن المرأة تستطيع أن تقوم بأيّ عمل عام وتتولى مختلف المناصب شريطة أن تكون جديرة به، وأن المناصب الكبرى في أيّ بلد ليست حكرًا على الرجال.

الخوف من الفشل

تسعى عبده إلى تحقيق إنجازات ملموسة وتتعامل بصرامة مع الأزمات والمشكلات حتى لا تخفق ويتسبب ذلك في إحراج النظام الذي غامر ودفع بها في هذا المنصب، وتدرك جيدًا أنها في مهمة الدفاع عن القرار الذي جاء بها كمحافظ، من هنا تتعامل وتتكلم وتتخذ القرارات بحساب وتتحسّس خطواتها جيدًا قبل أن تخطوها.

الأهم اقتناعها أن نجاحها أو فشلها سوف ينبني عليه مدى التوسع في الاعتماد على العنصر النسائي في المناصب القيادية في الأيام القادمة، أو تحجيم دور المرأة في شغل هذه المسؤوليات الكبيرة، وهي تعمل لخدمة تأمين مستقبل المرأة الوظيفي في الدولة حتى تتولى مناصب رفيعة، وتحارب لتثبت أن السيدات جديرات بالمسؤولية.

نادية عبده اختيرت امرأة منصب المحافظ في إحدى أكثر المحافظات التي تشهد نشاطا للتيار الإسلامي

وسط كل هذه الضغوط الواقعة عليها تدرك عبده أنها تحظي بدعم غير مسبوق من الحكومة ومؤسسة الرئاسة لمواجهة التحديات الموجودة في محافظتها، خاصة وأنها تعاني الكثير من المشكلات التي تتعلق بتدنّي الخدمات المتاحة للمواطنين، لأنها محافظة زراعية بالأساس وأكثرية مناطقها ريفية وظلت مهملة لسنوات طويلة.

الدعم الحكومي والرئاسي لها يأتي في إطار توجه الدولة للاهتمام بالمناطق الريفية كأحد أدوات الاستقرار بالنسبة إلى النظام وعدم تهميش الفقراء لكي يؤكد ثقته في المرأة في مواجهة الهجوم الشرس من جانب أصحاب النظرة الذكورية في المناصب، ويريد النظام أن يبرهن على صحة موقفه في عملية اختيارها للمنصب.

الميزة الأهم أن وجودها في المنصب يبدو أنه لم يكن بهدف الدعاية السياسية للنظام لكسب أرضية عند المرأة وأنه يسعى لتوسيع الاعتماد عليها في المناصب القيادية، بدليل أنه اختارها لمحافظة تعتبر الأكبر مساحة في مصر، ولو كان يبحث عن مكسب سياسي لاختارها في إقليم صغير يسهل عليها العمل فيه وتحقيق إنجازات ملموسة.

مهمة صعبة

على الرغم من الدعم الكبير لها، يظل النجاح في اجتياز كل تلك التحديات أمرا ليس سهلا تحقيقه، لا سيما وأن هناك الكثير من التعقيدات والبيروقراطية المتجذرة في الجهاز الإداري للدولة في مصر، فضلا عن تدني المخصصات المالية للخدمات مثل الصحة والتعليم وتوصيل مياه الشرب للمناطق الفقيرة وتوفير احتياجات المحافظة من المطالب التي تريدها باعتبارها بلدا زراعيًا بالأساس وتعتمد على شراء مختلف المنتجات.

مع ذلك وضعت نادية عبده لنفسها استراتيجية مغايرة في العمل للتغلّب على هذه التعقيدات من خلال تقاربها مع الناس والتعامل بودّ مع الصالح من المسؤولين وقسوة مع المخالفين، ما جعل الكثير ممّن تعرّضوا لها بالنقد يغيرون وجهة نظرهم، خاصة وأنها تستخدم سلاح التقارب مع الجماهير لتعويض تدنّي الخدمات وإزالة أيّ اتهام بالتقصير أو تجاهل احتياجاتهم ما جعلها على مسافة قريبة من مطالبهم والاستماع لمشكلاتهم.

عبده تعاملت مع الهجمة الدينية المتشددة بهدوء شديد

لا تريد عبده أن يتعامل معها أيّ مسؤول باستخفاف لكونها امرأة بل تظهر “العين الحمراء” لأيّ مخالف أو مقصّر، وتتحدث عن أنها لا تعطي الفرصة للمخطئ مرتين، لأن الوضع العام لا يسمح بالخطأ والظرف الراهن ليس مجالًا للتجارب، ومن يعمل لصالح الناس والاستقرار ويؤدي عمله على أكمل وجه سوف يستمر في منصبه، ومن يتجاوز أو يقصّر فلا مكان له، وهناك الآلاف من الكفاءات التي تستطيع أن تنجز.

عندما سُئل عنها أحمد زكي بدر وزير التنمية المحلية السابق، وهو من رشحها للمنصب لشريف إسماعيل رئيس الحكومة، قال إنها “امرأة تريد أن يهرول وراءها المسؤولون من شدة تحركاتها الميدانية وعدم تأدية أعمالها من خلال المكتب، فهي سيدة مكوكية تدير منصبها في الشارع والحارات والأماكن التي من النادر أن يذهب إليها أيّ مسؤول”، وكان رأيه آنذاك مستندًا إلى ملفها الوظيفي وقت أن كانت في منصب نائب محافظ البحيرة.

منذ تكليفها بالمنصب تتعامل على أنها رئيس جمهورية في محافظتها تطبيقًا لطلب السيسي، الذي دعا كل المحافظين لأن يكونوا رؤساء في محافظاتهم، ما أعطاها ثقة ومسؤولية أكبر في أن تتخذ القرار وتتحمّل تبعاته، لذلك استطاعت أن تنجز الكثير من الملفات بشكل سريع وتسبق الكثير من زملائها المحافظين.

ظهر ذلك في ملف إزالة التعديات على أراضي الدولة، وهو الملف الذي طلب السيسي من المحافظين إنجازه خلال أسبوعين فقط، واستطاعت الانتهاء من إعادة جميع الأراضي التي تمّ الاعتداء عليها من جانب مستثمرين ورجال أعمال ومواطنين في زمن قياسي لم يتجاوز العشرة أيام، وقدمت للسيسي أمام حشد من المحافظين ومسؤولي الدولة فاتورة إنجازها وكيف استطاعت ردّ أراضٍ بقيمة 23 مليار جنيه ما جعل الجميع يثني عليها ويتباهى بها رئيس الدولة أمام الرأي العام.

كونها امرأة أمر لم يمنعها من التعامل بذكاء شديد مع اختيار معاونيها في المنصب، ولم تقم بتفضيل العنصر النسائي أو التوسع في الاعتماد على السيدات في المراكز المهمة بالمحافظة حتى لا تظهر أمام الرأي العام بأنها تعادي الرجال أو تريد إقصاءهم والاعتماد على النساء مكانهم، واعتمدت بشكل أكبر على الرجال ليكونوا في صدارة مساعديها، مع أن القانون يتيح لها اختيار من تشاء في أيّ منصب دون العودة لرئيس الحكومة، وهكذا رسّخت قاعدة أن المرأة عندما تتولى منصبًا رفيعًا فإنها لن تكون عنصرية تجاه بنات جنسها مثلما يفعل الكثير من المسؤولين في الدولة.

13