ميساء محمد فنانة سورية تجعل من التراكمات التاريخية محفزا على الإبداع

تجربة التشكيلية ميساء محمد تؤكد أهمية المادة والموروث الإنساني.
الخميس 2022/11/10
شخوص تولد من ذاكرة الفنانة

تسافر الفنانة السورية ميساء محمد في الوجود الإنساني ماضيه وحاضره، لتختار منه وجوها وشخوصا تعيد تشكيلها في فضاء لوحاتها بكل حالاتها الوجدانية. ومن هناك تتوسع نحو إعادة تصوير الحياة بكل أوجهها وبألوان تستمدها من ذاكرتها العميقة وإحساسها بالانتماء إلى سوريا والمنطقة العربية.

“البحث عن الصمت، ملك الأطراف، حجر الدم، مقام الصبا” عناوين لمجموعات التشكيلية ميساء محمد أو لمعارضها، تبعث على الكثير من التحفيز والتأمل، تقول الكثير مما تريد قوله ميساء، وتلخص الكثير من الذي يسكن فيها بعيداً عن تبسيط العمل وعن تحديد مكان إقامته، عناوين لا تكتفي بإرهاق الزحام واختصارات المكان بل تلتجئ إليها وإلى أحداثها التي تقترب من الخيال، ذلك الخيال الذي يمنح العمل غنى وثراء.

وتنتقل ميساء محمد من رسم البورتريه إلى التراث والفولكلور والألعاب الشعبية، إلى الطبيعة وإلى ما بعد الطبيعة وفلسفة اللوحة واختزال المفردات الجمالية لتعمل على طرح منجزها الفني بتداعيات العارفة بسر الحالات السردية وعلاقاتها مع الظواهر الفنية المختلفة والعارفة بهموم المعبد وعشق الكهان.

وهي بخطوات كلها ثقة، ودون تعثر برهاناتها الفنية تعيد إنتاج الحياة ونبضها بنصوص جديرة بالانتماء إلى تلك الذاكرة التي تأبى مغادرتها، بل تصر على الهطول بقدوم الريح ودونه وبتأمل طويل تعيد به ميساء تلك المكونات الملبدة بغيومها التي تشكل حواسها وهي تبصر المدى، تعيد تلك المؤثرات المؤلمة في لوحتها والتي تعيد بدورها ذلك التوازن إلى الروح بل إلى روحانية الزمكان حين تتلامس بين بعضها البعض هذا أولاً، وثانيا حين تلتقي بأعالي سفر التفاصيل.

الفنانة التشكيلية تؤسس لمصالحة صعبة بين الموروث والمعاصرة، بين حركات  في شكلها المرئي وبين تفاعلاتها البصرية الحسية
الفنانة التشكيلية تؤسس لمصالحة صعبة بين الموروث والمعاصرة، بين حركات في شكلها المرئي وبين تفاعلاتها البصرية الحسية

وبالميل نحو استخدام دينامية معينة وبرصد ظلالات طقسية مقدسة إلى حد ما ستزج الفنانة ميساء محمد في لوحتها بالكثير من المناخات التي سكنت في ذاكرتها تلك مع الإسهاب في الرجوع إلى الوجوه التي لا تنطفئ، الوجوه التي تحمل سحر الحياة حين تتداخل فيها تداعيات التاريخ بماضيه وحاضره وهي تسرد الوجع والحكايات.

وبخطوات كلها فعل وقواعد تأسيس للممكنات تمشي ميساء نحو أقاصي هضبات الوجود الإنساني بحثاً عن إستراتيجية الانتقاء وتأثيث الأشياء في فضاءاتها التي تتوق إلى الرغبة في التعبير وفي إرساء شروط تفردها دون أي إلغاء لعملية الغوص في عمق الأشياء ذاتها، فهي كحال التشكيلية سمر دريعي تصوغ بورتريهات مستقلة بذاتها، تتحاشى العتبات وما يرمى عليها من قلق وخوف حتى تنفض عن نفسها غبار الأيام الكالحة، فلا مهرب لها إلا سطوحها، إليها تسافر بأحلامها وآمالها وآلامها، وعليها تبسط كل تلك اللحظات من فعلها الإنساني القادم من تراث شعبي قديم، تجعلها تحس ونحن معها بإيقاع شاعري دافئ يجري في سطوحها، فهي تفرش عقودا من حياة أكلها العنف والخراب، وتلوثت بين معطيات الأحداث بأنيابها المميتة.

وعلى خطورة ذلك تأتي ميساء وبتحد يهيمن على توجهها لتصنع لوحة فيها تستثمر ذلك الكم الهائل من التراث القديم وعلى نحو أخص ما يتعلق بمفردات البيئة والناس وحركاتهم من اللباس ومقتنيات فولكلورية خاصة إلى الألعاب الشعبية الطفولية، فهي وبإمكانات ناضجة وبذاكرة متقدة وبذكاء حاد تبرز أهمية المادة الإنسانية في لوحتها فهي الممتلئة بها، بتفاعلاتها ومشاعرها، بتداخلاتها وحسراتها إلى حد الاندفاع بحماس انفعالي فيه من الحريق صخبه ومن السكون ذهوله لخلق غنائية تشعرها بالاعتزاز والنجاح، وتشعرنا بمدى استنهاض طاقتها الإبداعية مع الانحياز التام إلى جماليات تعبيرية نابضة بالمفاجأة والدهشة.

ولطقس الفنانة اللوني عزف خاص وخيار خاص، يؤكدان قدرتها على ترويض اللون وحالته وإن في ذاتها الملتهبة بالحلم والضوء، وتتحرك في أقانيم مرئيّة تتحول بين أصابعها إلى فيضان لوني يستمر بالصعود عالياً ضمن متغيرات دائمة ترجعها إلى معبدها الذي فيه تمارس طقوس لمساتها التي تسمع كمقاطع موسيقية كلاسيكية، وفيه تجمع تراكماتها المعرفية والتاريخية لتشكل تحريضاً عذباً لخلق إبداع يليق بخصوبتها وبأمكنتها المثيرة للنبض ولتحولات الضوء في روح عملها.

لوحات منحازة إلى الجمال
لوحات منحازة إلى الجمال

وتؤسس الفنانة التشكيلية لمصالحة صعبة بين الموروث والمعاصرة، بين حركات في شكلها المرئي وبين تفاعلاتها البصرية الحسية في شكلها الذي يرفض الثبات، فتسعى إلى تجسيد هذه المصالحة بالإمساك بروح المكان وبالاقتراب من التفاصيل الصغيرة، فالوفرة في الإنجاز والمصالحة تمنحها ملامح طريق الاستمرار فيه ضرورة وحافل بالتحولات التي ستعني لها أقصد لميساء محطة غير هادئة بل مفصلية في سماع صوتها للمطر وللحقول معا، ففلسفتها وبخط تعبيري تطغى عليها نزعتها الذاتية مع ما هو ممكن من النزعة اللحظية فتأخذ أطوارها من ملامح الزمن وتأثيراته، من رحم المسافة الممتدة من عبق الطفولة والألعاب الشعبية إلى أفق لا نهائي، وتنثرها على المساحات الواسعة لعملها ضمن حركات كثيفة وبإيماءات تصويرية قد تشكل انعطافا لبقعها اللونية المتدفقة من ينابيعها الحسية نحو أطوار قد تشكل صياغات لونية شرقية بنفحات لنغم انتقالي تمنحها نوعا من التحرر من القيود الكثيرة مع الارتباط بثقافة تكاد تشكل زمرة دمها أقصد زمرة عملها.

معنى هذا أن ميساء محمد ترتبط على نحو لامتناهي بتلك الدعائم التي أرستها في جسد تجربتها التشكيلية، من سلسلة ألفاظها الإيمائية إلى سلسلة حركاتها المنجزة في سياقها المعرفي إلى تناول جغرافية التمفصلات في الوجوه البشرية وتداخلاتها ضمن أكثر من مستوى وبأدوات بها تحقق معيارها المحدد في إخضاع غير هش لقواعد جديدة بقوانينها المفتوحة على السماوات.

وتجدر الإشارة إلى أن ميساء محمد هي فنانة سورية، خريجة كلية الفنون الجميلة في دمشق، وتتميز بأسلوبها الانطباعي التعبيري وعمق رؤيتها الإنسانية، لكنها تقدم بورتريهات مبهرة في أجواء قريبة من الواقعية السحرية. وتكمن خصوصية معالجتها لتكوين اللوحة والألوان، في نقاء الألوان وقدرتها على تركيبتها لتحقيق الأثر المطلوب.

15