مية الكسوري لـ"العرب": الرواية تسلي الإنسان وتنسيه فناءه

تمثل مية الكسوري صورة حداثية للمرأة التونسية، راهنت على الثقافة لعبور نهر الحياة، بمأمن عما يخفيه من أدران الجهل وخطورة الركود الثقافي وسلطة الرأي الواحد والحقيقة المطلقة. ولم تتوقف عند ظهورها الإعلامي واشتباكها مع المشهدين السياسي والثقافي، فدخلت عالم الكتابة الروائية. “العرب” تحاور الكاتبة لندخل عوالمها، ولنرى من شرفات تفكيرها، قليلا من هذا العالم في الثقافة والكتابة.
ظهرت مية الكسوري في الإعلام محامية ومحللة إعلامية، وأبانت عن تصور ثقافي وفكري ينهل من مشارب معرفية شتى ويثبت مكانة المرأة التونسية المثقفة باعتبارها منوال بناء حضاري، صنوا للرجل لا أقل منه.
بعد ذلك، كتبت الكسوري الرواية، قدمت روايتي “نهج أنجلترا” 2019 و”بلاص اليهودي” 2025، لتواصل نحت الكيان وبلوغ الغاية، فوثقت بالحكاية والتخييل مسار حياة ومنهج تفكير ورؤية للوجود والأشياء، فإذا بشخصياتها صور شتى من ذاتها، وإذا بأطر الحكايات والشخصيات صدى مرجعيا لعوالمها ولتفاعلاتها مع الإنسان والمكان، لذلك حين تكتب الرواية، فهي تكتب نفسها وعن نفسها، وعن بلدها تونس كما هو وكما تشتهيه.
بطولة الأمكنة
تسأل “العرب” مية الكسوري ماذا أضافت إليها صفة الروائية كإنسانة وكمثقفة تونسية؟ لتجيبنا “تعطيني كتابة الرواية ذلك الحيز غير الخاضع للعقلنة التي أحرص عليها كرسالة ومنهجية في أدواري الأخرى، الرواية تمكنني من التواصل مع الآخر بنسج عالم خيالي، وهذا في الواقع معجزة من المعجزات. دائما ما كنت أتساءل عن كيفية انصهار مجموعات – تصل أحيانا الى شعوب كاملة في حالة كتاب مثل هوغو أو نجيب محفوظ – في شذرات مخيال كاتب تعلم جيدا أنه يقص قصة هي نوع من الكذبة.”
وتضيف “كنت مولعة منذ الطفولة بتوليد هذا الانصهار لدى السامعين وكان جمهوري الأول هو بنات عماتي وأعمامي (وكلهن طبيبات ومهندسات اليوم وبعيدات كل البعد منذ طفولتهن عن الميل الأدبي، يعني جمهور غير سهل) أقص عليهن قصصا حتى الفجر حتى أمنعهن من النوم، إذ كنت في طفولتي أحس بنوع من العزلة والوحدة وكان السبيل الوحيد لتأثيثها هو الخيال والقص. الرواية هي أيضا نوع من المصهر (fusible) تمكنني من رسكلة كل التفاصيل التي التقطها في الحياة اليومية عن الأشخاص والأماكن والمناخات، أنا من أولئك الذين لديهم فرط إحساس يجعلهم منتبهين دائما إلى تفاصيل الحياة الصغيرة. عندما تصل الذاكرة إلى حد من الإشباع (saturation) جراء هذا الالتقاط الدائم دون إغفال دور المطالعة في الإشباع تصبح هناك حاجة شبه فيزيولوجية لإعادة إنتاج المخزون مكررا على طريقتي.”
في روايتيها “نهج أنجلترا” و”بلاص اليهودي”، هناك احتفاء واضح بالمكان، عن دلالة ذلك، تقول الكسوري “كما أسلفت أعلاه أنا من أولئك المنتبهين جدا الى تفاصيل الحياة ومنها الأمكنة التي نعبرها خلالها. أنا من أولئك المزعجين الذين لا يكفون عن التوقف لتأمل الحيطان المشققة الأبواب الباهتة والزهرة اليتيمة النابتة في الخراب. بالنسبة إلي الأمكنة هي نوع من الشخصيات الفاعلة في صمت. في ‘بلاص اليهودي‘ العمارة شخصية محورية، يؤرخ تقادمها لتقدم الأحداث في الرواية، تتقدم في العمر كالشخصيات ولنا في تونس تعبير ‘كان جات الحيوط تتكلم‘. والحيطان تتكلم، فهي شواهد على الأزمنة والأشخاص.”
وتضيف “صورة بلاص اليهودي مستمدة من العمارة التي كانت تقطنها جدتي للأب بحي باب الخضراء. عايشت هذه العمارة منذ كانت بهية حتى شارفت على السقوط مما أجبر جدتي المسنة على الانتقال منها، وقد عشت هذا الانتقال كنوع من الحداد، إذ تغيرت الديناميكية العائلية كلها منذ الخروج من منطقة باب الخضراء في تونس العاصمة. لا أدري إن كان ذلك صدفة أو نتيجة لانخرام توازن ما كان بيت باب الخضراء جزءا منه.”
ونفس الشيء واجهته الكاتبة في نهج أنجلترا المكان الذي تحول إلى رواية لاحقا. تقول “عشت فيه سنواتي الثلاث الأولى في المدرسة الثانوية، ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى بمنطقة أخرى وعشت النقلة كنوع من الاقتلاع، وأثّر فيّ هذا التغيير كثيرا. ظللت آخذ الحافلة كل آخر أسبوع لأرجع إلى نهج أنجلترا، ولا أزال مواظبة على هذه الشعيرة حتى اليوم. لا يمر أسبوع دون أن أزور أماكن طفولتي التي اختفت جل معالمها، لكنني مازلت أراها ثابتة في خيالي وأحاول أن أصنع لها توابيت ملكية من الورق في رواياتي.”
تركز رواية الكسوري الأخيرة “بلاص اليهودي” على واقع تونسي قبل الاستقلال يختلف جذريا عن الواقع التونسي اليوم، من فسيفساء مجتمعي ثري ثقافيا إلى مجتمع واحد نمطي. حول تأثير هذا التغيير في الشخصية التونسية، تقول الكاتبة “صحيح أن المجتمع التونسي لم يعد تلك الفسيفساء التي نراها في ‘بالاص اليهودي‘ (إيطاليون، مالطيون، يهود، روس بيض…) منذ آخر الستينات وذلك لأسباب سياسية واقتصادية لكن حافظ على الثراء الثقافي التي أنتجه ذلك التمازج رغم أن هذا التمازج كما يتم الترويج له أحيانا هو تمازج طوبوي في واقع الأشياء. وهذا يظهر مثلا في وضعية شخصية سيكي الذي سيعاني من التمييز رغم أنه تونسي، فقط، لأنه أسود البشرة، وواقعة السراية.”
وتتابع “إن الاختلاط بين الأعراق والأجناس في مجتمعات مثل مجتمعاتنا (وهذا نراه اليوم أيضا أكثر فأكثر في الغرب منذ تصاعد النزعات اليمينية) تتغلب فيها مسألة الهوية على مسالة المواطنة، وهذا تمرين صعب يمارس أيضا في إطار قواعد الهيمنة والطبقية. في واقع تونس قبل الاستقلال (وهذه حقيقة صالحة لكل زمان ومكان) فاليهودي الغني مثلا يعامل كجزء من الطبقة المهيمنة (المحتل الفرنسي وحلفاؤه) في ما يدغم اليهودي الفقير في سواد المهيمن عليهم.”
تسأل “العرب” الكاتبة التونسية هل ما تزال الرواية قادرة على التعبير عن الواقع وعن الهم الجمعي أم أن تطورها وتغير اتجاهاتها ومفاهيمها حد من هذه الوظيفة؟ لتجيبنا “لا أدري إن كانت الرواية تعبيرا عن الهم الجمعي أو ضمير الأمة كما كان يقال في فترة ما. بالنسبة إلي هي دائما تمرين شخصي وذاتي. لكن وإن كان الجمعي مشكوكا فيه في ميدان الرواية فكما يقول يونسكو أيضا فـ‘عالم كل منا هو عالمنا كلنا‘ بمعنى أن هواجس الكاتب الشخصية وخيالاته السوية واللاسوية ستجد صدى لدى عدد من الأفراد، وكلما كان العدد أكبر كلما اعتقدنا أننا نقترب من الحديث عن الهم الجمعي والواقع، فالمسألة هي أننا مجموعة توزع علينا نفس ألوان التصوير ونفس الأدوات والأوراق، ولكن ما سيفعله كل منا بما منح له سيختلف تماما عما يفعله الآخر.”
الرواية والمثقف
تضيف “هذا التفاعل والالتقاء مع المخيال الفردي الذي قد يختزل لمجموعة ما الهم الجمعي في فترة ما قد تغيرت قواعده اليوم. فببروز وسائل التواصل الاجتماعي وهيمنتها لم تعد هناك حاجة كذي قبل لراو يحسن القص ويحتكر السردية والتخييل، أضحى لكل فرد القدرة على التنفيس عن مخياله ومشاعره حتى وإن كان لا يحسن لا الصرف ولا النحو ولا الرسم. فيتفاعل مع مجموعات تتضخم يوما بعد يوم من جراء ارتفاع أرقام الأمية -الفعلية والثقافية- إضافة إلى ما نشهده منذ سنوات من التشكيك المعاصر في المثقف وفي دوره بل والاستهزاء من الثقافة في مجتمعاتنا.”
وتستدرك الكسوري أن الرواية تبقى على كل أوفر حظا من بقية الإصدارات الأخرى، إذ يظل الإنسان في حاجة إلى التسلية. ومن معاني التسلية الأصلية هي المساعدة على النسيان. مضيفة “ماذا يريد الإنسان أن ينسى؟ أنه فان. شخصيات الروايات بخلودها تسليه عن فنائه.”
أما عن رأيها في دور المثقف اليوم أمام ما يحدث في عالم دام، وهل مازالت لمقولة غرامشي “المثقف العضوي” أهمية أم أنه أضحى متفرج دون أدوات مقاومة؟ تقول الكاتبة “كما أسلفنا أعلاه هناك انحسار لصورة المثقف ولدوره. هذا عصر ‘المؤثرين‘ واختيار كلمة مؤثر لوصف هؤلاء الفاعلين الجدد ليست اعتباطية وهي في صميم التفاعل الذي نظر له قرامشي في المثقف العضوي وإن كان قرامشي قد تعاطى مع الموضوع فقط من زاوية التأثير ذو الهدف السياسي.”
وتضيف مية الكسوري “المشكلة اليوم بالنسبة إلى المثقف أمام أحداث العالم المتسارعة هي علو الوتيرة المطلوبة منه في التفاعل. فالآنية قتلت كل تراكم ممكن لإنتاج الفكرة والنظرية، فيجد المثقف نفسه مجبرا على أنْ يصبح مؤثرا وإلا سيختفي من الرادارات، خاصة وأن جيل التيكتوك لن يقرأ نصوصا تتجاوز مدة قراءتها ثلاثين ثانية. وكما سرعة التفاعل مطلوبة فجدية التفاعل مطلوبة أيضا، فالموقف لا يجب أن يكون تحليليا وموضوعيا وعقلانيا بل عاطفيا في عالم ذاهب نحو نوع من التبسيط جعلت المانوية هي آلية القراءة الوحيدة. وقد أصبحنا ينتظر من المثقف أن يتحدث فقط ليحدد موقعه مع منْ. حتى يستعمل تدخله كسلاح من قبل مجموعة ما. هذا عدى الرقابة الداخلية التي أصبح يسلطها المثقف على نفسه توقيا من سحل الجحافل الإلكترونية إن جازف بما أصبح يسوق تحت هاشتاق ‘رأي لا جماهير له‘ لاستباق الهجمة وتلطيفها.”