نوري الجراح لـ"العرب": فقط عندما يموت الشعور بلطائف الوجود يمكن للشعر أن يموت

الشعر يمنح الأمل في مواجهة التوحش والتكنولوجيا العمياء.
الأحد 2024/07/21
الشعر يحرس الأمل بالقيم النبيلة

يواصل الشاعر السوري نوري الجراح مشروعه الشعري المشتبك مع حضارات المتوسط، والمقيم في الحلم بسوريا أفضل وإنسانية أقل عناء وشقاء. في مساره لم يكتف الجراح بقصيدة واحدة يكرّرها بأشكال مختلفة، بل حاول تغيير واقعه ورؤاه للأشياء وكسر كل الثوابت التي يمكن أن تخنق فكرته وأمله. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر حول تجربته وكتبه الأخيرة.

بَدَأت رحلتي إلى شعرية نوري الجراح منذ زمن تجاوز العشر سنوات ونيف، وهي رحلة ماتعة، لا تقف عند حد ولا تستقر على غاية، إنما هي تجربة في  المكاشفة الشعرية تمتح من نار السؤال وتنهل من معين الشرح والاستقراء. دليلنا إلى النتيجة يقيننا بالمحتمل، وأدواتنا في ذلك مناهج قراءة حديثة. بعد ذلك، وافَتني دهشتان، فيهما من نصيب الاسم الكثير، دهشة قصيدة “النوري” تنير المسافة بين الإبداع وتلقيه، وجرح شاعرنا “الجراح” حين يرى نصه بعيد المنال.

منذ المجموعة الشعرية الأولى “الصبي” إلى المجموعة الأخيرة “فتيان دمشقيون في نزهة”  نمت تجربة شعرية متفردة وسامقة في عوالم قصية من الإبداع، نمت معها صداقة مع “النوري”، شجرة كريمة سقاها الشعر بمائه، فأينعت بحوثا وكتبا. هذا الحوار آخر ثمرها.

شعرية الوجود

العرب: بعد مسيرة عقود طويلة من الزمن في كتابة الشعر، ما الذي تغير في رؤيتك للشعر والشاعر منذ “الصبي” إلى الآن؟

نوري الجراح: حيرتي في الشعر أكبر من لغتي ويقيني. وأسئلتي غالبا ما لا أجد لها من الأجوبة إلا مزيدا من الأسئلة التي تحار معها اللغة. فكيف بما هو ملغز ومغمور بما هو كينوني عميق، وميتافيزيقي أيضا أن تحده حدود في الوعي وتأسره لغة في الوصف.

دعني أعترف أنني لا أملك نظرة ثابتة إلى الأشياء، بل إن ما يعذبني أن نظرتي إلى الأشياء شديدة التقلب، ولا يبدو لي الأمر طريفا.

من البديهي القول إن كل طور من أطوار تجربة الشاعر يؤهله معرفيا لتجديد نظرته إلى الشعر. وكلما نضجت تجربة الشاعر نضجت معها نظرته إلى الشعر. ولكن هل يستطيع الشاعر الإحاطة بذاته، من باب استكشاف ما تغيّر وتبدّل فيه، وفي صنيعه الشعري ومن ثم في نظرته إلى الشعر، بينما هو يستجمع كل ما يملك من وعي مغامر ونباهة شعورية ليكتب قصيدته؟

بوكس

يخيل إليّ اليوم أن جلّ ما كتبته عن الشعر في موازاة شعري خلال عقود هو أشبه ما يكون بقراءة الأحلام. حيث البحث عن يقين ضرب من الهرطقة. ربما لا جواب عن سؤال الشعر سوى الشعر نفسه.

في ما مضى كنت أكثر جرأة على الكلام في الشعر. كانت لي جرأة تتشبه بجرأة الناقد. لم أعد أستطيع ذلك. لم يعد لي ذلك اليقين.

بعد كل ما قيل في الشعر، من قبل شعراء ونقاد أثروا السؤال الشعري بنظراتهم لاسيما في الأزمنة الحديثة، بتّ أقل مجازفة من ذي قبل في الإجابة عن مثل هذا السؤال الذي طرحت ولطالما كانت محاولاتي في الإجابة عنه مقرونة ببلاغة لا تفضي في النهاية إلا إلى صور وأفكار سرابية، مغمورة بضباب الميتافيزيقا.

وبالمناسبة، كلما سئلت عن تعريفي للشعر، أو طلب منّي وصف لصنيعي في الشعر، أو تأمل في مسيرتي كشاعر، وجدت نفسي على مفترق طرق، مسمّرا كما لو كنت في امتحان الحكاية.

باتت العبارة أضيق من كل محاولة لإيجازها في معنى يمكن الاطمئنان إليه. فما زال السؤال في الشعر مفتاحا لسؤال آخر، كل ما يفعله بي أنه يضاعف من حيرتي في تأمل معنى الشعر فكرة وجمالا.

هل ثمة في ما أقول فائدة ما؟

العرب: يقول فريدريش هولدرلين “إن وظيفة الشعر هي تحويل العالم إلى كلمات”، هل مازال الشعر قادرا على التعبير عن الواقع أم أن تأثيره لا يتجاوز حدود القصيدة؟

نوري الجراح: يحملني سؤالك على طرح سؤال عن فكرة شعرية الوجود، هل لما هو شعري في الوجود أن يزول؟ هل يمكن للوردة أن تتوقف عن بث جمالها في الوجود؟ هل لعطر وردة الكون أن ينفد؟ هل للجمال في منظومته الكلية وقد أشاعت نفسها في الطبيعة والطبائع وعبرت عن نفسها في لطائف الأشياء أن تزول، ألاّ يعود لها وجود في المرأة والطفل والرجل والشجرة والغيمة والنهر الدافق وحتى عين الحيوان المحدقة في الوجود، هل يمكن ألاّ يعود لها في كل هذا وجود؟ فقط عندما يكف هذا الجمال عن الوجود في العالم، عندما يختفي الجمال، عندما يموت الشعور بتلك اللطائف التي يسبغها علينا الوجود يمكن للشعر أن يموت، وبموته ندرك أننا بتنا حطبا خاليا من كل شعور، وأن موت حاجتنا إلى الشعر هي علامة موتنا.

الشعر لا يعبّر عن الواقع، إنه عالم حلمي قائم في ذاته. وهو لم يعبر الأزمنة ويصل إلينا في كل زمن إلا لأنه تفوق على الواقع بأجنحة الحلم، وصارت له كينونته ومعها زمنه الخاص. الشعر مغامرة في العالم وفي الماوراء وبحث لا يتوقف عن منبع أسرار النفس وأسرار الوجود، وليس تقريرا أو تعبيرا أو تفسيرا للواقع، ولا معركة معه. مغامرة الشعر مساحتها الكينونة الوجودية للإنسان والطبيعة، أما القصيدة فهي لا تتحقق ولا تتكشف قيمتها في مجرد تفسير الكلمات، ولكن في إنشاد الكلمات بلا نوايا مسبقة، والسفر الحر في ظلال الكلمات ومراميها البعيدة.

العرب: يحضر المكان في قصائدك بصفة لافتة، ما دلالة ذلك؟ وكيف يبني المكان هوية النص الشعري في نظرك؟

نوري الجراح: أجيب عن الشق الأول من السؤال، وأترك للناقد الإجابة عن الشق الثاني منه. هل يمكن للقصيدة أن تولد في فراغ العالم؟ أعني في فراغ بلا مرئيات وعلامات تنسج نفسها من مادتها، ومن ثم فضاء تتخلق في حيز منه يحيط بها ويدل عليها؟ القصيدة بنيان من الكلمات، والكلمات بداهة أسماء لموجودات وأفعال في المكان، وعلاقات بين الأشياء.

لا وجود للشعر خارج المكان، أما زمن الشعر الذي هو زمن الأحلام، أحلام النوم العميق وأحلام اليقظة. أما كيف يحدث هذا بحيث يمنح الشعر سماته فهنا تحديدا تكمن وظيفة الناقد. وظيفة الشاعر أن يكتب القصيدة. أن يتقن صنعة الشعر، بحيث ينتزع لقصيدته حيزا في تاريخ هذا الفن. أما المكان بموقعه ومواصفاته ومسمّياته الجغرافية فهو فضاء الشاعر، كلما اختبر مساحة أو حيزا فيه، انعكس ذلك في شعره على نحو ما، وتحققت من خلاله سمة من سمات قصيدته، إنما ليس شرطا أن يكون لأثر المكان أو ظهوره في مرايا الشعر حضور مباشر. طبعا ليس جديدا القول إن المكان في القصيدة أحد مصادر هويتها الفنية والحضارية.

فتيان دمشقيون

◄ النقاد العرب جلهم في حالة عطالة وقد انصرفوا عن الشعر ضجرا أو يأسا ربما من فوضى الحياة الشعرية

العرب: أصدرت مؤخرا مجموعة شعرية جديدة “فتيان دمشقيون في نزهة”، حدثنا عن أهم الملامح الفنية والدلالية لهذه المجموعة؟

نوري الجراح: سؤالك يا صديقي يسوقني إلى مقعد الناقد. كل ما في وسعي قوله إنني خضت مغامرة أخرى مع الكلمات وخرجت بهذه القصائد التي فيها شيء من استعادة لمرئيات أشبه بأحلام يقظة مرتبطة بزمن اليفاعة، فتيان يعودون من مصارعهم ليفعموا بفتوتهم شباب القصيدة، وطواف عند شواطئ سرابية تحت سماء شديدة الزرقة، ما بين البحر والهضاب سعيا نحو مدينة سرابية اسمها دمشق.

هذا الديوان محاولة من نوع ما للاستشفاء من ألم التراجيديا المهولة التي عصفت وما تزال تعصف بالسوريين واللبنانيين والفلسطينيين بوصفهم أصحاب هوية حضارية واحدة. من دون أن ننسى المشترك بينهم وبين شركائهم في المشترك الثقافي والحضاري من عراقيين ويمنيين، وقد اكتوت ظهورهم بنيران المشروع العنصري الإيراني، بينما هم يواجهون الأبرتهايد الإسرائيلي.

 أنظر في الكتاب نفسه قصيدة “فتيَة من دورا أوروبوس هاربون من فيلق ساساني في صيدون”، وقصيدة “الصعود إلى معبد أفروديت في عَسقَلَان” وقد نُشرت القصيدتان في الكتاب تحت عنوان “قنَاع يَتَمَرأَى في قنَاع”. القصيدتان ترمزان بشعرية لا علاقة لها بالمباشرة إلى العلاقة العضوية بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي بوصفهما وجهان لعملة الجريمة في عصرنا. هناك قصيدتان أخريان في الكتاب هما “الغزاة يولدون في المدينة” و”وصول البرابرة”، نشرتا تحت عنوان مشترك هو “البرابرة والغزاة والمدينة” تعارض هاتان القصيدتان قصيدة كافافي “في انتظار البرابرة”، القصيدة الأولى تنبئه بأن البرابرة، أو الغزاة لم يصلوا لأن الشاعر خرج ينتظرهم بباب المدينة، بينما كانوا في الحقيقة موجودين وراءه في قلب المدينة. والقصيدة الثانية تصف صدمة البرابرة فقد وصلوا أخيرا لكنهم وجدوا الأبواب مفتوحة ولا أحد في المدينة. القصيدتان في الحقيقة تنسلان كالخيط الرفيع في العلاقة بين الغزاة والطغاة.

الشعر والنقد والمثقف

العرب: أصدرت الدكتورة ناهد راحيل مختارات شعرية لك بعنوان “ألواح أورفيوس”، وفيها قراءات نقدية هامة جدا، كيف يقدر جمع مسيرة شعرية طويلة بين دفتي كتاب واحد في الإلمام بمختلف مزايا هذه المسيرة وفي مواكبة تطورها؟

◄في مقابل هذا المشهد القاتم للمثقف، لا بد من الاعتراف بوجود المثقف الفرد الرسالي الذي مهما حوصر ونكب وتألم وبدا دونكيشوتيا، سوف لن يختفي من الصورة

نوري الجراح: ربما كان الجواب عن هذا السؤال أكثر دقة ووجاهة لو أن ناهد راحيل أجابت عنه؟ لا أحاول أن أتجنب الحديث عن هذه المختارات، وهي ثمرة عمل شاق قامت به راحيل، اهتممت أكثر بكيفية تعامل أنثى مع تجربة شاعر من حيث ذائقة القراءة وطريقة الاختيار، ولا أخفيك أنني شغلني السؤال عما إذا كانت عين الأنثى الناقدة ونظرتها تختلف جوهريا عن نظيرها لدى ناقد، أما قدرتها على الإحاطة بتجربتي، فهي اشتغلت على مساحة واسعة من شعري منذ الديوان الأولى “الصبي” وحتى دواويني الأخيرة، وقدمت دراسة ذكية لما شغلها في شعري. ولعل انتباهة ناقدة من مصر لشاعر من خارج مصر هو بحد ذاته مغامرة خارج السياق تحسب لصاحبتها.

العرب: يظل الشعر توأما للنقد، به ينضج ويكبر ويعلو في سماء الإبداع، ما هو تقييمك لحركة النقد الأدبي اليوم؟

نوري الجراح: لا يوجد شيء اسمه حركة نقد أدبي اليوم. خصوصا نقد الشعر، هناك كتبة مياومون يسمون أنفسهم نقادا، ولا يعوّل على قراءاتهم ومراجعاتهم لدواوين الشعر، النقاد جلهم في حالة عطالة، انصرفوا عن الشعر، ضجرا، أو يأسا ربما من فوضى الحياة الشعرية حتى لا أقول من لاجدوى الشعر. هناك ندرة من النقاد الذواقة الذين يعول على قراءاتهم للشعر، لكن هؤلاء في ظل غياب المجلات الشعرية والأدبية الطليعية لم تعد لديهم منابر ينشطون من خلالها، نراهم ينشرون من وقت إلى آخر قراءة هنا وأخرى هناك فالصحافة السيارة تعتبرهم ضيوفا غير مرحب بهم. هم في الحقيقة أشبه بقابضي الجمر.

العرب: أخيرا، وأنت تعاين واقع فلسطين الدامي، هل من دور للمثقف العربي تجاه ما يحدث؟ أم أن الصمت أو الكتابة قدراه الوحيدان؟

نوري الجراح: نحن نعطي للمثقف دور السوبرمان، في حين لا يملك هذا المخلوق في مجتمعات الشرق بصورة عامة والمجتمعات العربية بصورة خاصة أيّ قوة مستقلة، حتى في أوروبا اليوم لم تعد فئة المثقفين من شعراء وكتاب ومفكرين وفلاسفة وفنانين وغيرهم فئة فاعلة في التاريخ كما كانت حتى الربع الأخير من القرن الماضي، عندما كانت تشكل ضميرا ثقافيا ومجتمعيا قادرا على مواجهة السياسيين في تسلطهم وجشعهم وحماقاتهم دفاعا عن قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

ما نلاحظه في الثقافة العربية أن الخطاب المتداول لدى الجماعات المتطلعة إلى التغيير، جماعات الحداثة (بين قوسين) تتوهم أدوارا للمثقفين من قبل حتى أن يكون لديها تعريف للمثقف، في وضع بات كل متعلم يعتبر نفسه مثقفا. وهذه مشكلة لا يوجد لها حل. فلأقصر حديثي إذن على الشاعر حتى لا نذهب في متاهة الكلمات الهاربة من معانيها.

تأمّلنا في حقائق الواقع ومجرياته يجعلنا نشك في حكاية المثقف هذه، فالمثقف العربي اليوم هو بين مسخ قعيد بأبواب العطايا الشحيحة للنظم والمؤسسات الرسمية، وبين كائن طريد تائه في جغرافيات الأوطان والمنافي، وثالث يتأرجح بين هذا وذاك، وهو لا يجد لقدميه مستقرا ولا لحقيقته صورة يرضى بها. هذا النمط الأخير من المثقفين نراه يبدل الأقنعة لينتصر بالزوغان وخداع الذات على هزيمته الفاضحة أمام جبروت التحكم بالمصائر، ليمكنه أن يلبي غريزة البقاء.

بوكس

لنعترف أننا خلال قرن من الجعجعة بلا طحن وصلنا بقضية فلسطين إلى لحظة الانمحاق الدموي، وبحاضرنا وصلنا إلى قيعان المهزلة. لقرن من الزمن تحولت فلسطين إلى قميص عثمان، لبسته الأمة مشرقا ومغربا وتباهت به قبل أن تتخبط وتتمزق وتنسحق بين حجري رحى الظلاميين والعسكر. والنتيجة أن الجميع يتبارى اليوم في نزع هذا القميص الخلق.

لم يعد للفلسطيني اليوم سوى دمه المهراق وقد صارت كل بقعة من تراب المشرق العربي مرتعا لميليشيات ثقافة الموت، شراذم المغول الجدد الطالعين من معبد الجريمة في قم. أنظر إلى دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء، عواصم اللغة والتاريخ والجمال كيف تحترق بنيران الطغاة ورعاتهم وزبانيتهم الخارجين على المدنية الموغلين في كهوف الأحقاد. الموازين في المنطقة العربية كلها مختلة، حتى النيل ينزف ويجري اليوم حاملا أشلاء الآدميين وهباته باتت طميا دمويا.

لنعترف أن الدور التاريخي للمثقف قد انتهى، مات المثقف، واحتل مقعده ودوره الفضاء الأزرق.

في مقابل هذا المشهد القاتم للمثقف، لا بد من الاعتراف بوجود المثقف الفرد الرسالي الذي مهما حوصر ونكب وتألم وبدا دونكيشوتيا، سوف لن يختفي من الصورة. ولأختصر فأقول إن المثقف العربي الذي يقدم نفسه اليوم بوصفه حداثيا، سوف يناقض الصفة التي يسبغها على نفسه، ما لم يقف بمنتهى الوضوح مع حق الشعب الفلسطيني في كفاحه لاستعادة حقوقه التاريخية من مغتصبيها، من جهة، ومع قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي ينادي بها الناس. بخلاف ذلك نحن لا نتحدث عن مثقف بالمعنى الفكري والأخلاقي الراسخ في التاريخ، وإنما عن كتبة وسياح يتسلّون بالكلمات.

الاحتفاء بالشعر

العرب: ديوانك “لا حرب في طروادة” صدرت مؤخرا ترجمته اليونانية على يدي المستشرقة بيرسا كوموتسي، واحتفي بالكتاب والترجمة في حفل أقيم في معرض كتاب سالونيك الدولي للكتاب، وقبلها بشهور نالت الترجمة الإيطالية لكتابك “الخروج من شرق المتوسط” التي قامت بها المستشرقة الإيطالية فرانشيسكا ماريا كوراو جائزة بريمو نابولي التقديرية للعام 2023. ما الذي يمثله لك هذا الاحتفاء بأعمالك الشعرية من قبل الأوساط الثقافية الأوروبية، أسالك هذا السؤال ولا يغيب عن ذهني الاحتفاء الفرنسي بك بمنحك جائزة ماكس جاكوب الشعرية المرموقة للعام 2023؟

نوري الجراح: لا ريب في أن نقل الشعر من لغة إلى لغة إنما يمنح حياة موازية للقصيدة. تعارفت الثقافات في ما بينها عن طريق الترجمة، فلا مناص، إذن، من الترجمة لتحقيق التواصل الأسمى بين ثقافات العالم وفي القلب منها شعرياته. أعتبر مترجمي الشعر، الأكفاء منهم، مغامرين يتنكبون نقل الجمال الفني بروح رسالية. ترجمة الشعر عمل شاق لا يقدر عليه بجدارة إلا الندرة من المترجمين، لذلك يكاد يكون مع أفضل تجاربه عملا خلاقا. ليس سهلا أن تمنح حياة أخرى للشعر، ليسافر أبعد في وعي العالم ووجدانه، ويتفتح كما تتفتح الأزهار في حدائق العالم.

أشعر بالامتنان للذين أقبلوا على ترجمة شعري، لولا هؤلاء النبلاء لما رأيت أزهاره تتفتح في جنائن بعيدة.

وهذا يجعلني أقول إن الاحتفاء بالشعر إنما يجدد الأمل بإنسانية الإنسان، بإيثاره الجمال على القبح، والحب على البغض، وحرية الخيال على ضيق الأفق. لا بد أن نتمسك بالشعر لنصون إنسانيتنا بأسمى تجلياتها لاسيما في هذا الزمن الصعب، زمن الصورة الفارغة، والسرعة الجنونية، وشيوع الأنانية الفردية، وانتشار التفاهة العمومية، وكل ما يولّد غربة المرء عن وجدانه.

الشعر يحرس الأمل بالقيم النبيلة، يمنعها من أن تفسد، ويمنح الإنسان القوة الروحية في مواجهة آلات الزمن الجامح المباهي بقدرته اللامحدودة على السيطرة على العقول والأرواح، زمن التكنولوجيا العمياء المبشر بفكرة “الما بعد”، ما بعد العقائد وما بعد الأخلاق، ما بعد كل شيء عرفناه وألفناه وآمنا به، ما بعد كل تعريف تواضع عليه البشر للقيمة الإنسانية، وقد شارف هذا “الما بعد” على إخضاع البشر، وتحويلهم إلى عبيد وضحايا لحفنة من المتوحشين المسيطرين على العالم.

 حتى فكرة الذكاء الاصطناعي يريدون لها في النهاية أن تصنع الغباء البشري عن طريق تبليد الشعور الطبيعي بين البشر ونحو الأشياء، وتحويل الجموع إلى جزر من السائمة التي لا يعنيها من وجودها سوى تلبية أسباب وجودها البيولوجي أسيرة منظومة الغرائز وعلى رأسها غريزة البقاء، مقابل إغراءات السفر في متاهة الأشياء التي تشبه الأشياء، وهو ما يجعل الكائن عاريا وضعيفا وغريبا تماما عن حقائق الوجود.

◄احتفاء فرنسي بنوري الجراح بمنحه جائزة ماكس جاكوب الشعرية المرموقة للعام 2023
احتفاء فرنسي بنوري الجراح بمنحه جائزة ماكس جاكوب الشعرية المرموقة للعام 2023

 

9