الشاعر المغربي صلاح بوسريف لـ"العرب": لا ينبغي أن نحمّل الشعر وزر العالم أو الوجود

علاوة على كتابته للشعر الذي يقدم فيه نصا مختلفا له رؤيته الحداثية التي تحمل بصمته، خاض الشاعر المغربي صلاح بوسريف مشروعه النقدي بجدية في محاولة لتوضيح مسالك الشعر الحديث وكشف الأوهام والعراقيل التي وقع فيها الكثير من الشعراء العرب في اتجاه نحت نص شعري حديث، يثور على بناء القصيدة الكلاسيكي، وفي تجربته هذه ما يثير الكثير من التساؤل، وهو ما تحاول “العرب” إثارته في حوارها معه.
استطاع الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف بعد مسيرة عقود من الزمن، بدءا من مجموعته الشعرية “فاكهة الليل” 1994 ودراسته النقدية “رهانات الحداثة: أفق لأشكال محتملة” 1996، أن يتبوأ مكانة هامة في المشهد الثقافي المغربي والعربي على حد السواء.
لقد نقل بوسريف الشعر العربي من ثقافة المشافهة إلى ثقافة الكتابة وألقى في مياه القصيدة الراكدة ألف حصاة، يحرك بها ثوابت الموروث الشعري ويزلزل أصولية الفكر العربي، فأضحى من أبرز أصواتنا الشعرية والنقدية اليوم، وأكثر مجايليه حضورا وتجديدا وارتيادا للآفاق البكر، وفي حواره مع “العرب” يحدثنا بوسريف عن تجربته وعن الشعر والنقد والراهن العربي ودور المثقف العربي اليوم وغدا.
الشعر والنظرية
العرب: بعد مسيرة سنوات عديدة من الشعر والتنظير، في أي المجالين ترى نفسك ناحتا للكيان؟
لا يمكن أن تجد شاعرا حقيقيا دون أن يكون له رأي نظري في الشعر، سواء كتبه أم جاء في حواراته
صلاح بوسريف: لا أفصل بين الشعر والتنظير أو بين الإبداع عموما والتنظير. هذا الحوار في حد ذاته تنظير، لأن فيه أجوبة، هي قضايا نظرية حول الشعر والكتابة عموما، وكل حوار هو تنظير، مهما كانت طبيعته. كما أن النظرية نقد، والنقد نظرية، كما يعرفهما هنري ميشونيك. إذن، فأنا لا أفصل بين النظرية والممارسة، بل هما من طبيعة الكتابة، خصوصا حين ندخل أفق مشروع شعري ما، ويكون لنا موقف من هذا الشعر أو من بعض أشكاله ومفهوماته التي استنفدت وجودها، وأصبحت في حاجة إلى المراجعة والتدقيق. لا يمكن أن تجد شاعرا حقيقيا دون أن يكون له رأي نظري في الشعر، سواء كتب عنه أم جاء في حواراته.
وفي ندوة عن محمود درويش، جميع المتدخلين تكلموا عن درويش باعتباره شاعرا، وأنا تكلمت عنه، بحضوره، باعتباره صاحب رأي واختيار شعريين، وله وعي نظري بالشعر، وهذا يوجد في كل حواراته، فوافق محمود على هذا، ما يعني أن شاعرا دون نظرية، في تصوري، هو شاعر دون أفق شعري جمالي، بل ثقافي أيضا إذا وسعنا الأمر أكثر. فالشاعر اليوم لا يوجد دون معرفة شعرية ودون وعي نقدي – نظري.
العرب: أقمت أطروحتك على مفهوم الكتابة باعتباره خيارا شعريا حداثيا، يقطع مع أصولية الممارسة الشعرية ومع كل معيار ثابت، تنكره البيانات النقدية الحديثة وتثبته التجربة، ماذا تقدم حداثة الكتابة إلى الشعر العربي الحديث؟
صلاح بوسريف: حداثة الكتابة ليست نظرية توجه الشعر، أو هي نظرية سابقة للشعر، بل جاءت من الشعر، من الممارسة الشعرية نفسها، من سنوات من البحث والقراءة والتأمل والسفر عبر قارات الشعر ومجراته في كل ما استطعت الوصول إليه من لغات وثقافات عالمية، ماضيها وحاضرها، وهي النص أو العمل الشعري، قبل كل شيء. لذلك فحداثة الكتابة كانت مراجعة للشعرية العربية، في كتاباتها الشعرية وفي مفاهيمها وتصوراتها، بالنظر إلى مفهوم الصيرورة الذي هو شرط إبداعي جمالي، بل وجودي.
فمراقبة الصيرورة هي التي أتاحت لي الوصول إلى مفهوم حداثة الكتابة، في مقابل حداثة القصيدة التي لم تنتبه إلى هذا الشرط، وهذه الضرورة المعرفية التي تنجو بنا من الاستقرار، ومن المفاهيم والتصورات، بل والممارسات نفسها التي كانت منذ قرون، وجئنا لننتقدها باسم الحداثة، وأعني هنا ما سمي بـ”الشعر الحر”، ولاحقا بـ”الشعر المعاصر” أو “القصيدة المعاصرة”، وهذا عطب الحداثة التي لم تراقب الصيرورة، بل اطمأنت لما تقوله لتبقى في الماضي، في مفهوماته وبعض بنياته الجوهرية، منها الشفاهة والإنشاد، بدل الكتابة، وهي البنية الأم في “القصيدة”.
وهذا يجري على جماعة “مجلة شعر”، كما يجري على غيرها. قليلون في هذه الجماعة من كانوا يكتبون من خارج “القصيدة”، ومن خارج الشفاهة، وكان عندهم وعي شعري بالكتابة، أو بما أسميه “حداثة الكتابة”، مثل أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، في قطع مع “القصيدة”، كتصور ومفاهيم وبناء، باعتبارها بناء مسكونا، وهذا ما أكد عليه ابن رشيق في كتابه “العمدة”. فكيف يمكن إقامة بناء جديد في أرض مسكونة أو مأهولة!؟
يصعب أن أدخل في جملة من التفاصيل في حوار كهذا، وكتاب “حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر” فيه هذه التفاصيل، ويمكن العودة إليه، فهو صدر في طبعتين، واحدة في المغرب والأخرى في عمان بدار فضاءات بالأردن.
كتابة الشعر والقارئ
المثقف الذي أنهكته الأنظمة، إما باستقطابه أو باستبعاده، لا يمكن أن نحمّله أسباب فساد واقعنا العربي
العرب: من الملاحظ أن مشروعك النقدي سيرورة وصيرورة في آن واحد، يثري بعضه بعضا نحو المكاشفة النقدية، ماذا يضيف كتابك الأخير “أوزان الشعر و إيقاعاته” إلى مسارك النقدي والنقد العربي عموما؟
صلاح بوسريف: في الكتابات النظرية خصوصا أنا لا أكتب من أجل الكتابة، لا أكتب إلا لوجود سؤال ما يلح علي في إضاءته. وأنا بالمناسبة لا أجيب، بل أكتفي بإيقاظ السؤال تلو السؤال، وحفز القارئ والشاعر والناقد على الوعي بالسؤال، كشرط من شروط الصيرورة في الكتابة والإبداع.
في “أوزان الشعر، إيقاعاته” حاولت أن أبين كيف أن ما استنبطه الخليل من أوزان اكتفى فيه بأبيات حصرها وجمعها ابن عبد ربه في كتابه “العقد الفريد”، وهي لا تمثل كل الشعر العربي، لأن هناك من ذهب إلى أن رزين العروضي استنبط أكثر بكثير مما استنبطه الخليل، لكن لا شيء منه بقي، لأن زمن التدوين كان زمن القاعدة والنسق وتثبيت الهوية العربية، في مقابل غيرها من الهويات غير العربية التي دخلت إلى الإسلام، والشعر في هذا كان لا بد من حصره في “القصيدة”، في نمط له إطاره الذي لا يمكن الخروج عنه. وهنا حدث التغاضي عن الصيرورة في مقابل الاستقرار والحصر، أو الوزن في مقابل الإيقاع، لتبقى التفعيلة هي الشعر، وغيرها ليس شعرا.
انظر وضع النفري، فهو ليس شاعرا عند هؤلاء، لأنه كتب بطريقة مفارقة لما هو سائد ومعروف. ومجمهرة عبيد بن الأبرص لم يعتبروها شعرا، لما كثر فيها من الزحافات والعلل، وغيرهما. وهو ما جعل النمط ينفي الأفق. وهذه من الأمور التي حاولت الوقوف عندها في هذا الكتاب، كما عملت فيه على تقريب النظريات الوزنية للقارئ، ولمن يذهبون إلى ما سمي بـ”قصيدة النثر” فقط لأنهم يجهلون العروض، من الشعراء خصوصا.
العرب: يقول هولدرلين إن “وظيفة الشعر هي تحويل العالم إلى كلمات”، كيف يمكن أن يضطلع الشعر بهذه الوظيفة دون أن يتحول إلى بيان إخباري أو ذراع سياسية؟
صلاح بوسريف: العالم حين ندركه ككلمات فقط نختزله في اللغة وحدها، وهذا ما لا أوافق فيه هولدرلين، ولا حتى هايدغر الذي استنجد بهولدرلين ليحل بعض مشكلاته الفلسفية. فالعالم هو الكلمة والإشارة والفراغ والصمت، بل هو سيمياء من الرموز والعلامات، وهذا ما حاولت أن أقف عنده في كتاب “شعرية الصمت (الأفق الشعري للكتابة)”؛ بمعنى أن اكتفاءها باللغة يجعلنا نبقى في الشفاهة، ونلغي الصفحة كدال من دوال الشعر، وكذلك البياض، وما يكون في النص من توزيع خطي ومن رسوم وعلامات.
الموسيقى نفسها، إذا انتفى فيها الصمت تحولت إلى ضجيج، وهذا ما نجده في الشعر الذي إذا اكتفى باللغة وحدها سيكون مجرد أصوات. وحتى حين نقرأ هولدرلين نجد أن شعره ليس اللغة وحدها، بل هو العلامات والصمت والفراغ، فتصوره هذا لا يتفق مع شعره، وهذا خلل بعض النظريات في علاقتها بالكتابة.
العرب: تتغذى القصيدة من الأمكنة وهي تؤسس عبورها نحو الأشياء، هل بمقدور الشاعر ترويض المكان باللغة؟
صلاح بوسريف: لا أوافقك على تسمية “القصيدة”، وهذه من المشكلات التي حاولت حداثة الكتابة الوقوف عندها، وهي ما علق في لاوعينا من مفاهيم وتسميات مرتبطة بممارسة شعرية كانت في الماضي. والقصيدة في الشعرية العربية القديمة ليست من القصد، بل من التقصيد، كما يذهب إلى ذلك معجم التدوين، “لسان العرب” لابن منظور الذي حصر العربية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، لم يتجاوزه، فقصد العود، بمعنى شطره إلى شطرين، وهذه هي “القصيدة”، فهي صدر وعجز، فهل الشعراء المعاصرون يكتبون اليوم بالشطرين؟
حداثة الكتابة ليست نظرية توجه الشعر، أو هي نظرية سابقة للشعر، بل جاءت من ممارسة الشعر
وهو نفس الخلل في ترجمة أدونيس وأنسي الحاج لـ poéme en prose بـ”قصيدة النثر”، فهل معادل كلمة poéme في الفرنسية هو قصيدة؟ علما أن poéme هي مشتق من نفس المصدر في الفرنسية، بعكس ما عندنا، هناك “قصيدة” وهناك شعر، ولا نفكر في العلاقة بينهما، بل نستعملهما بنفس المعنى، ونفس المفهوم. فحين نسقط ماضي ثقافتنا وشعرنا على ثقافة ولغة أخرى لها سياقاتها المفهومية الخاصة بها، في البناء وفي التصور، فكيف يمكن الحديث عن ترويض المكان، إذا كان ترويض المفهوم استعصى علينا؟
العرب: دائما القارئ في الشعر ليس ذاتا نائية أو محتجبة، بل هو في صميم بنائه، كيف ذلك؟
صلاح بوسريف: لا ينبغي أن نعتبر القارئ سلطة على الشعر والشاعر، بل وعلى الكتابة قاطبة، فنحن نفكر في القارئ، لكن ليس بما يرغب فيه هو، لأنني وأنا أفكر وأكتب لا أرى أمامي إلا تجربتي الشعرية التي أعمل على إقناع القارئ بها، لا الاستجابة إلى القارئ الذي، مع الأسف، أفسدته المدرسة والجامعة وأفسده الإعلام، والشعر عنده شيء آخر غير ما أرغب فيه أو يرغب فيه غيري من الشعراء. التنازل عن التجريب والمغامرة بسبب القارئ هو ما جعل “القصيدة” تبقى هي المهيمنة، حتى في شعر الحداثة نفسه.
العرب: الكتابة الشعرية رحلة في غياهب الوجود، المترع بالوجع والمخضب بالدماء، هل الشعر قادر على إخراج العالم من أدرانه نحو واقع أكثر نقاء؟
صلاح بوسريف: لا ينبغي أن نحمل الشعر وزر العالم أو الوجود، كما لا نقبل، نحن، هنا والآن، أن نتحمل تبعات “السقطة” الأولى التي رمينا فيها إلى الأرض، نحن أبناء الأرض، ولادة ونشأة وتكوينا، بل وجودا وعدما، لماذا سنفكر في شيء آخر غير الأرض؟ لذلك فالشعر هو نحن، ونحن نخلق وجودا موازيا، أو متجاوزا هذا الوجود، لا يضاهيه، بل يتجاوزه ويتخطاه، بما يكون فيه من مجاز ولغة وإشارات ورموز ورسوم وبياض وصمت، وأيضا من مجازات، لتكون اللغة التي نكتب بها هي لغتنا نحن، وليست استعارة وجود غيرنا، من خلال لغته ورؤيته وما كان عنده من تصور ومفهوم للوجود، فأنا لغتي، وأنا وجودي، وأنا شعري، هكذا أتمثل الوجود وأعيشه.
المثقف ومأزق الحداثة
العرب: في عالم فوضوي، تتزاحم فيه الأضداد على نحو مبهم وسريالي، يصبح الدم فيه احتمالا والأشلاء وجهة نظر، وحيث تطفو المادة والنفعية على سطع الموجود نافية كل قيمي، هل بقي من دور للمثقف إزاء ما يحدث في فلسطين؟
صلاح بوسريف: المثقف الذي أنهكته الأنظمة، إما باستقطابه أو باستبعاده، لا يمكن أن نحمله أسباب فساد واقعنا العربي، وما آل إليه من هزيمة وإخفاق. هناك المثقف المستقيل، الذي يكتب بدون رسالة، أو لا قضية له سوى أن يكتب، وهذا كمن يحرث أرضا لا ماء فيها.
المثقف الذي أعنيه هو من يقاوم بما يستطيع، في رأيه وموقفه وكتابته، المثقف العضوي الذي ليس بالضرورة أن يكون تابعا لحزب ما، بل هو عضوي بموقفه، وبما ينخرط فيه من قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية، من موقعه كمثقف أو كسلطة رمزية. غير هذا، لا ينبغي أن ننتظر من المثقف أن يكون السيف، فهو قلم، وهذه هي حدود سلطته، ولا تنس أن جرح اللسان أو اليد، أعني الكتابة، أشد ألما من السيف.
أما القضية الفلسطينية فهي قضية هذا المثقف العضوي، لا يتخلى عنها، لكنه معزول، كما هو شأن الشعوب التي تتظاهر، لها ما تفرضه من تأثير على الدول والأنظمة، لكن هذا هو جهد المقل، كما يقول ابن عربي.
العرب: أخيرا، كيف ترى الشعر العربي اليوم، هل تحرر من سلطة القصيدة، بعد ثورة نقدية تدعو إلى عوالم الكتابة الشعرية وإلى المحتمل والمطلق أم أن المنشود مازال ينظر من الآتي البعيد؟
صلاح بوسريف: عطفا على ما سبق ثمة هوة بين ما نكتبه وما نسمي به الشعر اليوم، وهذا مأزق الحداثة التي لم تراقب الصيرورة، وكان اليقين فيها أكثر مضاء من الشك. هناك شعراء في العالم العربي كتبوا النص والعمل الشعري، وهؤلاء يجدون صعوبة في اختراق القارئ الذي، كما أشرت، المدرسة نمطته ووضعت الشعر في طريقه بأنه الوزن، لا الإيقاع، والجامعة ذهبت في هذا الطريق، ما جعل حداثة الكتابة تحتاج إلى وقت وصبر، وقد شرعت تحضر في وعي القارئ والناقد وفي البحث عند الطلبة الباحثين. إذن، لا ينبغي أن نتعجل النتيجة، فكل جديد مغاير ومختلف لا يمكن أن يمر بما نظنه من سهولة، لكنه حين يكون مؤسسا على وعي معرفي جمالي، بل وثقافي شامل، أكيد سيكون هو المستقبل.