مول عكاظ

القائمون على الأمسيات والمهرجانات الشعرية نشطون. يتلقى بريد الصحيفة، وخصوصا البريد الثقافي، الكثير من البيانات الصحفية عن مثل هذه الأمسيات. لا يزال الشعر حيا في الأدب العربي. هجرة أشباه الشعراء نحو الرواية لم تحرم الشعر من مبدعيه. الحرمان الحقيقي للشعر هو من جمهوره.
مع البيانات الصحفية تأتي الصور. مشكلة الأمسيات الأساسية هي الجمهور. رغم التفنن في اختيار القاعات الصغيرة، وفي اختيار زوايا التصوير الذكية للإيحاء بأن عدد الحاضرين أكبر، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك. الأمسيات الشعرية مناسبات لا تستقطب الكثير من الحضور، ولا مبالغة عند القول إن الكثير منها محصور في شرائح عمرية متقدمة ممن حملت همّ الشعر في السبعينات والثمانينات إلى يومنا هذا. الحضور الشاب المتواضع لمثل هذه الأمسيات لا يعكس ديمغرافية وديناميكية المجتمعات العربية.
الشباب في عالمنا العربي كثيرون، كثيرون جدا، ونشطون، نشطون جدا. الشاهد هو بيانات الإحصاءات السكانية على العدد، وازدحام البوستات والتغريدات والفيديوهات والنكات على المنصات الاجتماعية عن النشاط. كل هذه الأعداد وكل هذا النشاط الإلكتروني، ولا تجد الأمسيات الشعرية من يحضرها؟
لست خبيرا في التسويق، لكني سأقول إن منظمي الأمسيات الشعرية قرروا مبكرا أن الشعر اصطفائي ويحتاج إلى قاعات خاصة وهدوء وتركيز ومناسبات مرتبة بدقة. لو جلست في قاعة تستضيف أمسية شعرية، تحس أن الهدوء فيها أقرب إلى قاعة امتحان تحريري في مدرسة ثانوية أو جامعة. ففيما عدا صوت الشاعر، لا تكاد تسمع دَبة النملة في المكان. والأمسيات أشبه بمونولوغ أحادي من الشاعر أمام حضور منصت، قليلا ما يتفاعل. ضجيج عالمنا العربي الاستثنائي، في البيوت والشوارع والأسواق وفي الحوارات الهاتفية، نتركه عند أبواب القاعات (أو الغرف للدقة) التي تستضيف الشعر والشعراء. هذا نوع من الأبراج العاجية المضاد للشعبوية، من حيث السلوك وليس من ناحية المستوى الفكري أو الثقافي.
ماذا حدث للشعر وجمهوره؟
في الصف الثالث متوسط (الصف التاسع) في مدارس العراق، كنا ندرس مادة الأدب العربي. أذكر الكتاب بغلافه الوردي وتبنيه للشعر العربي كمادة أساسية في الأدب، تتقدم على كل أجناس الأدب الأخرى من رواية وقصة وقصة قصيرة (لم يكن اختراع السرد قد وصلنا بعد). تعلمنا الكثير من ذلك الكتاب المكتوب بعناية. لكني أذكر استغرابي حين وصلنا إلى موضوع يتحدث عن الشعر كحضور، وليس قصائد فقط. الشعراء العرب كانوا يتبارون في “سوق عكاظ”. تصورت أن الأمر إشارة مجازية، لكن مدرّس المادة كان يشرح لنا أن عكاظ سوق حقيقية، بيع وشراء وهرج ومرج. ماذا يفعل الشعراء وسط كل هذا؟ إنه التسويق بنسخته ما قبل التاريخ الهجري. عليك أن تذهب إلى حيث يلتقي الناس، وأن تستقطب اهتمامهم. الناس يأتون للتسوق في عكاظ، فما المانع من استغلال المناسبة؟
استمر “سوق عكاظ” ومنبره الشعري لسنوات طويلة، قبل أن تترك معظم قبائل العرب الجزيرة نحو الفتوحات والمراكز الحضرية البديلة في العراق والشام ومصر. ذهب “سوق عكاظ” وبقي الشعر، وبقيت فكرة التسويق له في أن يذهب الشعراء إلى الناس، ولا ينتظرون أن يأتوهم.
لا أعرف مدى عملية أن تقام أمسيات شعرية في أماكن مفتوحة في “أسواق عكاظ” العصرية، أي المولات. تغيرت طبائعنا في التسوق وصرنا أكثر ميلا للتجمع في المولات، بعيدا عن الحر والبرد والمطر والشمس. ها هي السوق وها هم المتسوقون – الجمهور. هل نجرّب أن نقف وسط “مول عكاظ” لنلقي القصائد ونسترعي الاهتمام؟