موعد في عين غزال

ما إن يرد اسم صديقنا الراحل، الشاعر خالد علي مصطفى، إلا ويرد مقترنا بعين غزال، القرية الفلسطينية التي جاء منها إلى البصرة مع عائلته بعد النكبة في العام 1947 وهو صبي، وفي تلك الأعوام التي لم تكن بداية تعارفنا وتواصلنا فحسب، بل كانت بداية أحلامنا، بوطن عربي واحد يمتد من الماء إلى الماء، وبفلسطين محررة، وكنا نرى هذا الحلم الذي أجهض، ولم أعد أخشى أن أقول، بل بات مستحيلا، ولكي لا أتبرأ من حلمي وهو حلم جيلي، وهو كل ما تبقى لنا في هذا الزمن، فهو الحلم المستحيل في ظل الواقع الذي نعيشه الآن، عسى أن يتغير، بل آمل أن يتغير ليعود بنا إلى طفولة أحلامنا.
كانت عين غزال، قرية الشاعر خالد علي مصطفى هي الوعد والموعد في آن، هكذا كان يحدثنا عنها، حيث سنكون ضيوفه فيها، حتى صارت، ليس في ما نتحدث عنه، بل في ما نكاد نراه، هي فلسطين.
ومنذ أن صرنا نلتقيه، وبالنسبة لي كانت بدايات لقاءاتنا ببغداد في مع إطلالة ستينات القرن الماضي، في بعض مقاهي شارع الرشيد أو في جمعية الكتاب والمؤلفين، فقد كان حضوره مؤثرا بما توفر عليه من وعي ومعرفة وجلد على المتابعة، ومما لا أنساه، بل طالما تحدثت عنه، إن بعض الآراء التي كان يقول بها، في هذه القضية أو تلك، وعن هذا الشاعر أو ذاك، يتبناها كثيرون ممن كانوا يستمعون إليها منه مباشرة، أو عن طريق السماع من آخرين، ويتحدث بعضهم عنها وكأنها من اجتهاده وأصبحت أحيانا بعض مقولاته حاضرة وكأنها من الحقائق المطلقة التي لا تدحض ولا تناقش.
إن حضور خالد علي مصطفى الثقافي، الذي أشرت إليه، لم يكن من دون مقومات موضوعية، بل كان نتاج قراءات جادة ومتواصلة تقترن باستيعاب عميق مصدره الحوار مع كل ما يقرأ وما يسمع.
لقد سبق لي أن كتبت قبل رحيله: من النادر أن أقرأ كتابا او أتحدث عنه أو أسأل عن بعض ما ورد فيه، إلا وقد وجدته، قد سبقني إلى قراءته ويتوسع في الحديث عنه، وعن مؤلفه حديث المعلم العارف.
ومن مفارقات علاقته بالكتاب والقراءة، لي صديق من أبناء مدينة الأعظمية ومن أسرها العريقة، وهو شخصية اجتماعية وبطل رياضي معروف، وكان بيته غير بعيد عن بيت خالد علي مصطفى، المطلّ على نهر دجلة في محلة السفينة، الذي كان قد استأجره وظل مقيما فيه لما يزيد عن نصف قرن، وصديقي الأعظمي هذا، يعرف علاقتي به، فكان يقول لي: يحيرني أمر صاحبك فلم أره يوما وعلى امتداد الأعوام التي كنا جارين فيها، إلا وهو يحتضن كتاباً، والأعجب في أمره، أن شخصا ما يطرق بابه فيخرج إليه والكتاب في يده!
وما قاله صديقي الرياضي الأعظمي، حقيقة أدركها كل الذين عرفوه، فهو القارئ المثقف، والمثقف الذي لم يتوقف يوما ولم ينقطع في أي ظرف عن القراءة، لذا ليس من مبالغة أو تجاوز للحقيقة حين نتحدث عن خالد علي مصطفى الشاعر الذي تميز بشخصية شعرية لا تحيل إلى أي تجربة شعرية أخرى، ممن سبقه أو من مجايليه، وما ينبغي أن يقال في هذا الشأن، ان هذا التميّز ظهر منذ إطلالاته الشعرية المبكرة ولم يتبلور في ما بعد، كما هو عند كثيرين، وكذلك يمكن أن نتحدث عنه ناقداً أو أكاديمياً، فقد كان له حضوره في الشعر والنقد والدرس الأكاديمي، وهو حضور ذاتي لم يتكئ على عوامل من خارج الحيوية الإبداعية.
ومع كل ما أحمله من تقدير واحترام وإعجاب بهذا الحضور، غير أنني طالما رأيت فيه المثقف الاستثنائي. لقد رحل أبو أروى، من دون أن يتحقق موعدنا في عين غزال، فهل سيتحقق هذا الموعد بعده ومن دونه؟