"مواسم الإبداع" تحتفي بالمسرح التونسي وتسقط في الصراخ السياسي

ماذا يعني أن تضيف ركاما على الركام في عدد المهرجانات والملتقيات المسرحية في بلد متخم بالاحتفاليات الثقافية مثل تونس؟
ما الذي يفيد في التعريف بالمعرف أو تجميع أعمال مسرحية من هنا وهناك، ودونما اتفاق، للقول إن مسرحنا بألف خير ومازال معافى من موجات الابتذال والتهريج التي تجتاح ما تبقى من تجارب كثيرة، على الرغم من انحصار الفن الرابع، ليس في البلدان العربية فحسب وإنما في العالم أجمع.
مرت عقود على تأسيس المسرح الوطني التونسي كتتويج لتراكمات تعود إلى بدايات القرن الماضي، ولا بد للقائمين الحاليين على هذه المؤسسة العريقة أن يثبتوا حضورهم كي لا يقال إن أب الفنون في تونس قد تآكل ومهدد بأن يبتلعه النسيان لولا بعض الحوافز المادية التي تغري شباب الجيل الجديد من المسرح.
ولا يختلف اثنان في أن تونس تعد عاصمة المسرح العربي بامتياز، واكتسبت هذه السمعة منذ بداية ثمانينات القرن الماضي حين كان كل شيء يشجع على المسرح الذي كان أهم المنابر الثقافية التي تعتليها نخب اليسار، وتتواصل من خلالها مع جمهورها لتقول كلمتها بطرق غير مباشرة وقد ضاقت بها وسائل الإعلام في ظل تشديد رقابي خانق.
الذي أنبت ذاك الربيع الثقافي المتردد والخجول أحيانا، هو جفاف وشح الإنتاج التلفزيوني والسينمائي آنذاك، بالإضافة إلى قدوم موجة من المسرحيين الذين تتلمذوا على أيادي معلمي المسرح الأوروبي من الذين أثروا وتأثروا بالمد اليساري الذي وصل أوجه مع حركة مايو 1968 في فرنسا على وجه التحديد.
اليوم، وقد خفت العزائم ووهنت الحماسة وخمدت لدى أبناء الجيل المؤسس، وتغيرت المشارب بتغير الواقع والاتجاهات، لم يبق للمسرح التونسي إلا أن يثبت أنه على قيد الفعل والنشاط كما لو أنه في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
بعض المنتقدين يسمون هذه الاستفاقة حالة من “التصابي الفني” ومحاولة لتجديد الشباب في الوقت الضائع، في الوقت الذي تجتاح فيه أشكال تعبيرية أخرى وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، كما أن وزارة الثقافة لم تعد تلك “التكية الثقافية” التي تنفق من خزينتها على مسرحيين في زمن اللامسرح.
وبالفعل، فإن تظاهرة “مواسم الإبداع” التي نظمت أخيرا للاحتفاء بالمسرح التونسي، سجلت، وبشكل لافت، دخول القطاع الخاص على الخط لدعم التظاهرات الثقافية وهو أمر غير مألوف في تونس باعتبار أن المؤسسات الاقتصادية الخاصة اعتادت على تمويل ودعم كرة القدم وأنشطة أخرى بعيدا عن الثقافة.
هي، بلا شك، مبادرة إيجابية ومحمودة، لكنها في حاجة إلى المزيد من الدعم والتحفيز، لكن السؤال الذي يطرح: كيف سيغامر رأس المال الذي يوصف دائما بـ”الجبان” ويدعم تظاهرة مسرحية تشكو ضعف الإقبال وضحالة المستوى الفني كما يتضح من الكثير من العروض الفاقدة للتوهج واللمعان؟
أما ما بات دافعا للتثاؤب في هذه التظاهرة هو إصرار منظميها على تكرار عناوين ومحاور لا جديد فيها سوى ادعاء مواكبة الراهن والمستجد كي لا يقال إنها “خارج الحدث، وبعيدة عن هموم شعبنا”، وهلم جرا من تلك الكليشيهات المستهلكة.
هذه المحاور التي رافقت العروض في الندوات الموازية تمثلت في مواكبة ما يحدث في غزة، والتركيز على ثيمة المقاومة التي نشأت مع المسرح التونسي في بداياته وارتبطت به حتى صارت بمثابة التوأم.
لا أحد ينكر ذلك طبعا، وإنما بالإمكان تطويرها وتوسيع مناقشتها ضمن أفق فني لا يهمل الجماليات التي هي الهدف الأول والأخير من الفعل المسرحي.
جل ما نخشاه أن تصبح الحركة المسرحية في تونس أشبه بالحركة النقابية التي يتدخل قادتها بالعمل الحزبي والسياسي بحجة أنها ارتبطت عضويا وتاريخيا بمرحلة النضال الوطني في سبيل دولة الاستقلال.
ولكي لا ننكر على المسرح دوره التوعوي والنضالي كما هو حاصل بالفعل، فإن الندوة المقامة، والتي حملت عنوان “المسرح في زمن المقاومة” وذلك تفاعلا مع ما يحصل في قطاع غزة، قد صبت في هذا الإطار على سبيل المواكبة، وليس العمق الفكري والطرح الجمالي، فجاءت سطحية، شبه جوفاء وقد طغت عليها الشعارات حتى صارت أشبه بتقرير إخباري يغلب عليه طابع الحماسة.
المسألة السياسية والهموم النضالية والتحررية لم تغب يوما عن المنجز المسرحي التونسي، لكنها كانت على أعلى درجة من الإخلاص للفن الرابع وأطروحاته التقنية والجمالية أولا، كما كان واضحا في عروض المسرح الجديد وما رافقه من تجارب على غرار مسرحيات الفنانين فاضل الجعايبي وفاضل الجزيري ومحمد إدريس وجليلة بكار ورجاء بن عمار والمنصف السويسي والحبيب شبيل وغيرهم.
وإذا كان الهدف من هذه التظاهرة – حسب تأكيد القائمين عليها – هو الاحتفاء بالمسرح التونسي وتقديم أحدث إنتاجاته وتجاربه والتعريف بها وتثمين المتميز منها نصا وكتابة وأداء تمثيليا وسينوغرافيا وإخراجا، فإن ما وصلنا منها هو المزيد من الصراخ السياسي، الشيء الذي جعلها لا تبتعد كثيرا عن أي مهرجان خطابي. مع فائق تقديرنا لصمود ونضال الشعب الفلسطيني طبعا.