مهرج سيروان باران يصرخ في وجه السراق والكذابين

"البواقين": شخوص مدهشة تهجو الفساد السياسي من حولنا.
الأربعاء 2024/02/07
لوحاته كثيفة المعاني، تخاطب الضمير وتطلق صرخة للتعبير عن المعاناة البشرية

تبنى الفنان العراقي سيروان باران منذ ما يقارب العقدين مشروعا فنيا خاصا به، يأتينا كل مرة بشكل جديد، فمرة يظهر علينا بشخوص بشعة مخيفة تنتفض في وجه العالم ضد الحرب والقتل وتجارة الأدوية والأسلحة وانتهاك الشعوب، ومرة تأتينا شخوص ناعمة، لطيفة، بهيئة محببة إلينا لتروي لنا قصص السرقة والكذب والاحتيال، وتذكرنا بأوضاع عربية مؤلمة كما هو الحال مع شخصية المهرج في معرضه “البواقين”.

منح “غاليري مصر” رواده تجربة استثنائية لا تنعقد دائما، حيث يعرض مجموعة من أعمال الفنان العراقي سيروان باران، المفعمة بالألوان الصارخة، والتي تستكمل إثراء تجربة فنان تمرد على السائد وصنع لنفسه خطا فنيا ينتقد أبشع الظواهر والقضايا الحارقة في المنطقة العربية وفي موطنه العراق، بالكثير من الحدة والعنف والجرأة حينا والكثير من السخرية والهزل والجمال حينا آخر.

الفنان سيروان باران يشارك في واحد من أهم العروض بالموسم الفني لغاليري مصر، تحت عنوان “البواقين” والذي بدأ عرضه منذ الحادي والثلاثين من يناير الماضي، ويستمر حتى الخامس عشر من فبراير الجاري.

ويأتي عنوان المعرض “البواقين” كمزاوجة بين اللغة العربية واللهجة العراقية، فالبواقين أو “البواگين” هي كلمة معناها السراق والكذابين، سواء باللغة العربية أو اللهجة العراقية، وهي تختصر موضوع المعرض الذي ينتقد فيه التشكيلي العراقي سلوكيات الساسة والزعماء والشخصيات العامة الذين امتهنوا السرقة والكذب والخداع لتضليل الشعوب. وفيه يواصل سيروان باران توضيح أفكاره وأسلوبه الفني الباحث عن الاختلاف والتنوع والملتزم بالتجريب والتجديد.

مهرج مبهج

البطل الرئيسي هو المهرج والعناصر المؤثثة لحكاية الفنان التي يرويها منذ عشرين عاما
البطل الرئيسي هو المهرج والعناصر المؤثثة لحكاية الفنان التي يرويها منذ عشرين عاما

المهرج، ذاك الشخص المبهج، ظهر منذ الحضارات الأولى، يحاول بث الفرح في قلوب الكبار والصغار، في قصور الأمراء والملوك، ثم خرج إلى الشوارع إلى أن دخل خيمة السيرك وصار بطله الحقيقي الذي يمتلك مهارات ومواهب عديدة، فهو يرقص ويغني ويتنكر ويمثل وله أداء حركي مقنع ومتجدد، كل ذلك يوظفه المهرج لتقديم كوميديا سوداء، تستفز المشاهد ليضحك على واقع مأزوم وآلام مكبوتة وقضايا مهمة.

وعندما نتحدث عن المهرج في الفنون عامة إنما نتحدث عن الفن الأكثر إثارة وقدرة على الإدهاش، وهو الشخص الوحيد في الحياة الذي يمكنه أن يقول لنا الحقيقة مخلوطة بالهزل والسخرية، ونتقبلها منه ونحن ننفجر ضحكا، دون أن نتهم بالانحياز لطرف على حساب الآخر أو بالكذب علينا وتضليلنا أو حتى باستخدام ألفاظ ومصطلحات لا تناسبنا.

وعرف المهرج بأنه يميل في أدائه إلى استخدام الألغاز التي تنطوي على حقائق مؤلمة، لا يجرؤ أحد على البوح بها. وهذا ما يؤكده الكاتب الأميركي آرثر ميلر بقوله “المهرج هو حقيقة الإنسان، إنه يمثل كل ما في مهزلة الحياة من سخرية. وهو الرمز الأكثر قدرة على التعبير عن العمق الحقيقي للوجود”.

وفي الفن التشكيلي، كان المهرج بطلا في أعمال الكثير من الفنانين العالميين والعرب، بدءا من دييغو فيلاسكيز وبيكاسو وجورج رووه وصولا إلى المصري سيف وانلي والتونسي محمد شلبي وغيرهم من عشرات الفنانين، إلا أن “مهرج” سيروان باران يأتي أكثر بهجة بألوانه وملامحه، وحتى حركاته الفردية والجماعية. يأتي مهرجا متمردا بلونه الأحمر الدموي المتفجر، أحمر حمال معان، يعزز غضب “مهرج” سيروان وحذره من الخطر وجرأته على الصراخ والعزف والتعبير الحر.

في هذا المعرض يقدم الفنان العراقي لوحات كثيفة المعاني، تخاطب الضمير وتطلق صرخة للتعبير عن المعاناة البشرية المتواصلة مع السراق والكذابين وخاصة أولئك الذين يقودون العالم، والذين سبق أن انتقدهم في معارض سابقة له. فقد تنقّل باران في أعماله من عالم الكلاب المُفترسة إلى قادة الجيوش ذوي الوجوه المتعفنة، إلى تجسيد الساسة القذرين والسجناء المقهورين في لوحاته، وصولا إلى بطل معرضه الحالي “المهرج” الذي يواصل من خلاله تعرية الحقائق المغلفة بالهزل والسخرية.

ويُعد الفنان سيروان باران أحد أبرز الأسماء على الساحتين العراقية والعربية في الوقت الراهن، سخّر فنه وموهبته و”مهرجيه” أيضا ليكونوا صوتا للمستضعفين والمتألمين من ويلات الحروب والصراعات. يقول عنه الفنان محمد طلعت “أعماله صوت للإنسانية ضد صنوف القهر والظلم، لذا دائما ما تحمل أعماله رسائل إنسانية مهمة وصادقة يتأثر بها ويتفاعل معها الجمهور، كما بات لأسلوبه الفني بصمة فنية وجمالية لا تخطئها العين، وبصفة شخصية أسعد بتنظيم مثل هذه العروض ذات القيمة في المحتوى والمضمون لاسيما عندما تكون مصحوبة باسم مبدع متفرد مثل سيروان باران”.

اكتشاف الجسد البشري

مهرجو سيروان صوت المستضعفين
مهرجو سيروان صوت المستضعفين 

في لوحاته ومعارضه السابقة، شرح سيروان باران الجسد البشري وألبسه أثوابا مختلفة، وحوله إلى كائنات أسطورية وإلى جثث تنهشها الكلاب، لكنه في هذا المعرض يعيد اكتشاف هذا الجسد دون تعديلات عنيفة أو مخيفة، بل هو يجعله مهرجا بأجساد متنوعة الحجم واللون، وبملامح ضبابية غير واضحة، فما يهم هنا هو حركة المهرج وأداؤه الذي يصور مشاهد مألوفة في ذاكراتنا جميعا، يستفزنا لتذكر مواقف شهدناها وظلت دليلا على سراق وكذابين كثر.

إن الهدف من هذه اللوحات، ليس الجسد البشري، فالفنان ليس بصدد تصوير لوحات واقعية أو بورتريهات واضحة المعالم، إنما البطل الرئيسي لهذه الأعمال هو الموضوع، هو سلوك المهرج وحركته، هو العناصر المؤثثة لحكايته المرسومة على المحمل، حكاية الفنان التي ترويها لنا شخوصه منذ عشرين عاما وربما أكثر، ضمن مشروعه الفني الذي يسعى من خلاله لتقديم شهادات عن الانكسار والخذلان والخسارة والإحباط والظلم وعن توجيه سهام النقد الفني اللاذعة للقادة والسياسيين والزعماء والإعلاميين وتحديدا السراق والكذابين منهم.

وأجساد شخوص/مهرجي سيروان باران تأتي هذه المرة بألوان ساخنة، تطغى عليها الألوان الأساسية (الأحمر والأزرق والأصفر) التي تظهر أن الفنان مزجها بضربات قوية، وبحركات ثائرة ومتمردة تبوح بحالته النفسية زمن إنجازها، شخوص تصرخ نيابة عن رسامها ونيابة عنا كلنا، وتضع إصبعها على الداء، لكنها تصنع حالة من البهجة بأسلوب تجريدي تعبيري متقن، ذي معان كثيفة.

وفي بعض اللوحات، ينفخ مهرج سيروان في البوق، يذكرنا بتلك الآلة العجيبة ذات الصوت القوي الصارخ، والتي ظلت للمئات من السنين آلة الحرب بامتياز، حيث كان ينفخ فيها في الحروب لتحفيز الجيوش وإخافة الأعداء، لصوتها الحاد والمرتفع.

مهرج يقول ما نعجز عنه
مهرج يقول ما نعجز عنه

وحول هذا الأسلوب المتجدد والذي يحاول في كل مرة إعادة اكتشاف الجسد البشري بطريقة مختلفة، يقول الكاتب العراقي يوسف فاروق إن سيروان باران “أعاد اكتشاف الجسد البشري بطريقة سمحت له بتحليله وتفكيكه وإعادة تركيبه بما ينسجم مع الرغبة في مساءلته وجوديا، ولأن باران لا يرغب في وصف الجسد فإنه سعى إلى إعادة تعريفه، مهمة شاقة غير أن رساما بحجم باران كان دائما مؤهلا للتصدي لها وخوض غمار مغامرتها، تنتمي رسوم باران إلى التعبيرية الجديدة، غير أن الرسام الذي لا يكف عن الثناء على مرجعياته الجمالية قد نجح في أن يمد تعبيريته بسبل نجاة ليست متوقعة”.

أما الباحث والناقد العراقي سامي داود فأكد في كتاباته أن “أعمال الفنان سيروان، تدخل ضمن ذات الاتجاه التنموي للعين، كونها مبنية بإحكام لذلك تكون رؤيتها ممتعة ومفيدة لتطوير رؤيتنا للأشياء، إذ إنّ الرسم يعلمنا أن نرى في الشيء بحد ذاته، أكثر مما يكون عليه هذا الشيء. وهذا بدوره ينعكس على الأولية العامة للإدراك والفطنة”.

يذكر أن سيروان باران من مواليد بغداد، حاصل على بكالوريوس فنون جميلة من “جامعة بابل”، وعضو في اللجنة الوطنية للفنون التشكيلية، والرابطة الدولية للفنون التشكيلية. أقام العديد من المعارض الخاصة وشارك في معارض أخرى دولية ومحلية، كما حاز على عدد من الجوائز منها “جائزة الشباب الأولى” عام 1990، ثم الجائزة الذهبية في مهرجان الفن العراقي المعاصر عام 1995، ثم وسام تقديري من “بينالي القاهرة” عام 1999، وصولا إلى الجائزة التقديرية في بينالي بغداد العالمي الثالث عام 2002، والوسام الذهبي في مهرجان المحرس الدولي في تونس عام 2002.

النفخ في البوق نفخ في العقول
النفخ في البوق نفخ في العقول 

14