مهرجان قرطاج يحتفي بنجوم الموسيقى العراقية

تحضر الموسيقى العراقية ضمن فعاليات مهرجان قرطاج الدولي للموسيقى في دورته السادسة والخمسين، في خطوة غير مسبوقة، قدمت على أنها احتفاء بموسيقى “بلاد الرافدين” وتعزيزا لروابط الأخوة والتعاون الثقافي بين البلدين، ورغم أن الموسيقى المقدمة تبتعد قليلا عن الالتزام بالموسيقى العراقية، إلا أنها تظل خطوة هامة لحضور مثل هذه العروض في السوق الفنية التونسية.
تونس - دأب مهرجان قرطاج الدولي على تنظيم سهرات تحتفي بواحدة من الموسيقات العربية أو الغربية، فرأينا خلال الدورات الماضية سهرات مصرية وأردنية وجزائرية ويابانية وغيرها، مع حضور دائم للموسيقى الفلسطينية، لكنه هذا العام احتفى ولأول مرة بالموسيقى العراقية، فنظم عرضا مخصصا لنجمين عراقيين، يختلف النمط الموسيقي الذي يقدمانه، لكنهما يرفعان اسم العراق وهويته.
امتداد لحضارة بأكملها
رحمة رياض وسيف نبيل، حملا معهما للجمهور التونسي الشجن العراقي والحزن الدفين الممزوج بنغمات فرحة جعلت الأغنيات العراقية تلقى الرواج الأكبر في الساحة العربية خلال السنوات القليلة الماضية.
العراق الذي أنجب ناظم الغزالي وسعدون جابر وعفيفة إسكندر وزهور حسين وياس خضر وإلهام المدفعي وكريم العراقي وغيرهم من الفنانين الذين حظي بعضهم بشهرة واسعة، جعلت الجماهير العربية تحفظ أغانيهم وترددها، وتعيد تقديمها بمعالجة موسيقية محلية، هو أيضا الذي لا يزال ينجب فنانين شبابا، بعضهم امتداد لعائلات فنية كرحمة رياض التي هي ابنة الفنان الراحل رياض أحمد (1951 – 1995)، وسيف نبيل الذي استطاع بموهبته في التلحين والغناء أن يضمن موقعا بين أشهر نجوم الساحة الغنائية العربية حاليا.
بأزياء بيضاء، اختار كل فنان منهما تقديم فقرته الخاصة في الحفل، ورغم أن الجمهور انتظر وصلة موسيقية مشتركة، إلا أن كل واحد منهما اختار الغناء بمفرده، فكانت رحمة رياض صورة للموسيقى التقليدية الكلاسيكية، فيما قدم سيف نبيل عرضا استعراضيا، يمزج بين أغنياته التي حققت مشاهدات واسعة على اليوتيوب، ومقتطفات من الأغنيات التونسية والعربية.
اختار الفنانان تأدية أغنيات تونسية، ورغم أنهما لم يتقنا الغناء على الإيقاع التونسي الشعبي الصعب، إلا أنهما استطاعا شد انتباه الجمهور، وبينما قدمت الفنانة الشابة أغاني عراقية قديمة وأخرى عربية طربية، اختار سيف نبيل أن يغني لفيروز، ورغم أن “نسم علينا الهوى” وضعته مؤخرا في إحراج مع جمهوره السوري، إلا أنه أصر على إعادة غنائها فوق خشبة مسرح قرطاج.
صحيح أن فيروز “علامة عربية مسجلة”، لكن الجمهور جاء ليستمع للفن العراقي، وعادة ما يكون رواد هذه السهرات من محبي الموسيقى المحتفى بها وعشاقها، فكيف لفنان عراقي قدم للاحتفاء بفن بلاده، أن يغني كل شيء إلا أغنيات من تراث بلاده الغني بأشعار وألحان وأغنيات تعشقها الآذان والقلوب؟
وأن تكون فنانا عراقيا أو تونسيا أو غيرهما، من حقك أن تجدد في الموسيقى وتبتكر وربما حتى تغني بأسلوب مختلف عن موسيقى بلادك، لكنك حين تشارك في أمسية موسيقية عن بلدك، فأنت حينذاك ستكون “سفيرها” شئت أم أبيت، وبمجرد قبولك بالغناء باسم وطنك وضعت على عاتقك، سواء أدركت ذلك أم لا، مهمة الالتزام بتقديم صورة عنه، تليق به، وترفع رايته عاليا، وخاصة في حفل كالذي قدم في قرطاج، فليس كل يوم يسهر الجمهور القرطاجي على أنغام الموسيقى العراقية، ومثل هذه السهرات التي تلعب فيها السياسات الثقافية والعلاقات السياسية بين الدول دورا مهما، تعد نادرة وتخضع للمزاج السياسي العام.
ورغم هذه الإخلالات البسيطة، تفاعل الجمهور بشدة مع العراقيين، ورفع علم العراق عاليا، كما ردد “جنة جنة، عراق يا وطنا”، حتى يخال للمستمع أنه أمام عراقيين يتفاعلون مع أغنية وطنية، ويحفظون كل كلماتها، حتى أربكوا الفنانة التي لم تعد قادرة على الغناء، فصمتت فاسحة المجال لأصوات التونسيين.
الأغاني التي يؤديها العراقي بنغمة صوت حزينة، يختار فنانون من جنسيات عربية أخرى أداءها مع إضفاء إيقاعات سريعة
ويمكن اعتبار حضور رحمة رياض وسيف نبيل هذا العام تعويضا لغياب الفنان العراقي كاظم الساهر، الذي اعتاد تنظيم حفل سنوي في مهرجان قرطاج، الفرق الوحيد بينهما أن كاظم يأتي باسم العراق، فيغني أغانيه التي اتخذت طابعا وهوية عربيين أكثر، بينما تلاحظ الهوية العراقية للنجمين الشابين في كل شيء، ولعل أهم نقطة هي الكلمات والأشعار الغنائية المؤدات، فهي عراقية، يصعب أحيانا فهمها.
ويبدو أن العراق، هو البلد الأكثر حضورا في مهرجان قرطاج هذا العام، حيث من المقرر أن يقدم الموسيقار العراقي نصير شمة في العاشر من شهر أغسطس الجاري عرضا على خشبة المهرجان، مصحوبا بمجموعة بناة السلام، التي أسسها نصير شمّة من نجوم العازفين المشهورين من مختلف بلدان العالم، بهدف نشر ثقافة السلام في العالم، من خلال تقديم عروض موسيقية.
وينظر إلى شمة على أنه من أهم عازفي العود والمؤلفين الموسيقيين المعاصرين في الوطن العربي والعالم، وصاغ لنفسه رؤية موسيقية فريدة تتميز بأسلوب عزف متطور ومختلف، يستمد إبداعاته من أزمات بلاده، والموسيقى العراقية، وحتى العربية التي تعبر عن الشعوب وقضاياها.
وقدم شمّة مع المجموعة عروضا عدة، منها في دار الأوبرا المصرية في القاهرة ومسقط وأبوظبي، كما خرجت المجموعة بعد هذه العروض بأفكار جديدة، منها تقديم عرض “أمنا الأرض” من أجل سلامة الكوكب.
وآخر مرة عزف فيها نصير شمة في تونس كانت في العام 2017، حين قدم عرضا تحت عنوان “عالم بلا خوف”، وهو رسالة سلام وحب وحياة للإنسانية، رحل خلالها شمة بالجمهور إلى عوالم متنوعة متحدة في تمجيدها السلام، لتؤسس عالما آمنا يحلو العيش فيه.
خصوصية جغرافية
رحمة رياض وسيف نبيل، حملا معهما للجمهور التونسي الشجن العراقي والحزن الدفين الممزوج بنغمات فرحة
إن أقدم قيثارة وجدت في التاريخ هي قيثارة أور، التي وجدت جنوب العراق، كما دلت التنقيبات أن الموسيقى العراقية رافقت الحضارات التي سكنت العراق منذ نشأته، ويبدو أن العراقيين ورثوا من أجدادهم السومريين، لاسيما سكان جنوبي العراق الذين تميزوا بالنواح والشجن، وكأن دماء أسلافهم القدامى لا تزال تجري في عروقهم إلى الآن.
وتمتد تأثيرات الخصوصية الجغرافية للعراق على كل مظاهر الحياة، ولعل الموسيقى أحد أكثر التعبيرات الفنية والحياتية التي يسرد من خلالها الفنان القناعات المتوارثة، وتأثيرات التاريخ بأحداثه الدموية في حياة البشر، لذلك كانت الموسيقى العراقية واحدة من أكثر الموسيقات تعبيرا عن الحزن والحنين والشجن، فالعراق عاش المئات من السنين على وقع حروب وصراعات، عسكرية ودينية، أثرت في تركيبة المجتمع وحفرت في ذاكرته جراحا لا تنسى ولا يداويها الزمن.
ولم تقف الظروف السياسية التي مر بها العراق خلال العقود الماضية أمام تطور الحركة الموسيقية، كما هو الحال اليوم، حيث لا تسكت الاضطرابات السياسية وحتى الأزمات الاقتصادية أصوات العراقيين، وإنما نكتشف كل يوم صوتا جديدا استطاع مغادرة العراق وتحقيق نجاح عربي، في حين استدار أغلب النجوم العرب نحو الفن العراقي ورأيناهم يؤدون أغنيات من أشعار وألحان فنانين عراقيين، والمفارقة العجيبة أن الباحث على موقع يوتيوب سيجد أغلب الأغنيات المنتشرة عربيا مؤخرا هي عراقية، كلمة ولحنا.
لكن الأغاني التي يؤديها العراقي بنغمة صوت حزينة، يختار فنانون من جنسيات عربية أخرى أداءها مع إضفاء بعض الإيقاعات السريعة والفرحة، التي تشجع الإنسان على الرقص، فيبدو وكأنه طائر جريح يرقص على أحزانه.