مهرجان أيام قرطاج المسرحية يراهن على المقاومة بالمسرح

يطفئ المسرح التونسي هذا العام شمعته الأربعين، ليدخل سن النبوة والحكمة، مستفيدا من التجارب والخبرات المتراكمة، وساعيا نحو التجديد، حيث تؤسس الدورة الجديدة لأيام قرطاج المسرحية سوقا مسرحية تأمل في أن تفتح فضاءات جديدة لدعم وتعزيز الإنتاج المسرحي في زمن “مقاومة المسرحيين” و”المقاومة بالمسرح”.
بلغت أيام قرطاج المسرحية، دورتها الرابعة والعشرين، معلنة المسرح الوطني التونسي الذي تأسس في العام 1983 أحد أبرز المسارح عربيا وأفريقيا، ومذكرة بأربعة عقود تنقل فيها المسرحيون من تونس والعالم، بين قاعات الفن المسرحي وفضاءات العرض المفتوحة، ليهبوا الجمهور تجارب مسرحية “مفعمة بالبحث الفني الإنساني عن القيم الأصيلة التي تؤسس لعالم قوامه الأمن والسلام والتعايش في كنف احترام حرمة الذات البشرية رغم اختلاف الفكر واللون والجنس والهوية”، كما يصفها معز مرابط مدير الدورة الرابعة والعشرين للأيام.
وتحت شعار “بالمسرح نحيا.. بالفن نقاوم” تؤكد الدورة التي تنطلق من الثاني وحتى العاشر من ديسمبر المقبل أن المسرح مقاومة فنية من نوع خاص، مقاومة أبي الفنون الذي لا تزال له الكلمة العليا في تجذير القيم والأفكار والمبادئ وبأن هذا الفن الذي بعث من المآسي هو دائم الانتصار للإنسانية وللقيم الكونية وللحرية بعيدا عن كل أشكال التطرف والتمييز.
وتستغني الأيام خلال افتتاح فعالياتها واختتامها عن المظاهر الاحتفالية مع الإبقاء على العروض والندوات والورشات التكوينية، تضامنا مع ما مر به قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
وقال المدير الفني الفنان المسرحي معز مرابط إن هذه الدورة “اخترناها أن تكون تضامنية” مع الفلسطينيين، مشيرا إلى أن “المسرح بطبعه هو فعل مقاومة.. هو وسيلة للتعبير عن القضايا التي تهم الإنسانية والشعوب بشكل عام، وهذا ما حاولنا ترجمته من خلال العروض المبرمجة”.
تساؤلات جدية
هل في المسرح اليوم ما يرغّب فيه وما يشتهى حتى يقبل الجمهور عليه إقبال من يسعى إلى تلبية حاجة له فيه؟ وهل يمكن الحديث عن بحث في المسرح، عن تسلية أو معرفة أو عن انسياق إلى حلم أو بهجة أو عن سعي إلى متعة العين والأذن والفكر أو عن نزوع إلى دفء الجماعة دون “اكتمال الفعل المسرحي”؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير، يثيرها الحديث عن المسرح التونسي ومن ثمة المسرحيْن الأفريقي والعربي في نفوس المتابعين للفعل المسرحي في هذه المناطق، نطق بها الدكتور محمد المديوني في تقديمه للندوة الدولية التي ستنتظم ضمن فعاليات الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية تحت عنوان “المسرح وجمهوره اليوم أو اكتمال الفعل المسرحي”.
وإلى جانب الندوة الدولية، تقترح الأيام ندوة علمية بعنوان “كونية أنطون تشيخوف: المجالات والامتدادات”، وفيها سيتم التطرق إلى إنشائية تشيخوف بصفته مسرحيا كونيا نجح في إبراز تعقيدات الوجود الإنساني من خلال تعدد التجارب الإنسانية التي عاشها على المستوى الفردي والعائلي والاجتماعي، وتحليل لأمثلة من نصوصه وأعماله الإخراجية، إلى جانب دراسة علاقته بالمخرجين وحضوره في المسرحيْن العربي والغربي واستعراض تجارب شخصية لترجمات نصوص مسرحية للكاتب العالمي ولأعمال إخراجية اقتبست من روائعه بالإضافة إلى بحوث ودراسات حول تجربته المسرحية.
سيد القصة القصيرة وأحد أهم الكتاب المسرحيين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ستتناول أيام قرطاج المسرحية دراسة كتاباته التي ركزت على عمق الطبيعة البشرية والأهمية الخفية للأحداث اليومية العادية. وكيف لعب في كتاباته بمهارة على الخيط الرفيع بين الكوميديا والتراجيديا.
كتب تشيخوف وأخرج مسرحا ثوريا على الواقع في مجتمع روسي يتسم بالفقر والقمع السياسي والتفكير الشمولي، ولا يزال مسرحه يقتبس من مخرجين ومسرحيين عرب وغربيين. وهو اليوم سيكون “ضيف الأيام”، الغائب الحاضر، الذي لا تزال أعماله شديدة التعبير عن القمع والتمييز بكل أشكالهما.
وتسجل الدورة الرابعة والعشرون عرض أكثر من 60 عملا مسرحيا من 28 بلدا من مختلف القارات، موزعة على مجموعة من أربعة أقسام، حيث تتضمن المسابقة الرسمية 11 عرضا، والعروض الموازية 24 عرضا، ومسرح العالم 18 عرضا، وتعبيرات مسرحية في المهجر 4 عروض.
الدورة الرابعة والعشرون تسجل عرض أكثر من 60 عملا مسرحيا من 28 بلدا من مختلف القارات، موزعة على مجموعة من أربعة أقسام
وتحافظ الأيام هذا العام على مختلف أقسامها من مسابقة رسمية وعروض موازية تونسية وعربية وأفريقية مع التمسّك بثوابت الأيام وقيمها من خلال تقديم برمجة ثرية ومتنوّعة.
وتتنافس أعمال المسابقة الرسمية على جوائز “التانيت الذهبي”، و”التانيت الفضي”، و”التانيت البرونزي”، وأفضل ممثل، وأفضل ممثلة، وأفضل نص، وأفضل سينوغرافيا.
وستكون تونس ممثلة في المسابقة الرسمية بعمليْن هما “الفيرمة” للمخرج غازي الزغباني، و”الهروب من التوبة” لعبدالواحد مبروك.
ويتسابق العملان التونسيان مع مسرحيات “تراب الجنون” من الجزائر، و”صمت” من الكويت، و”أنتقوني” من الأردن، و”شمس” من المغرب.
وتدخل الإمارات العربية المتحدة غمار المسابقة بعرض “أغنية الرجل الطيب”، وتشارك العراق بمسرحية “أمل”، ومصر بمسرحية “حكم نهائي”، وسوريا بمسرحية “ترحال – أرواح مهاجرة”. أما العرض الأفريقي الوحيد في المسابقة فيحمل عنوان “مسكن – لوحة تاريخية إيفوارية” من الكوت ديفوار
أسماء مهمة
يكرّم المهرجان في دورته الرابعة والعشرين ثلة من المسرحيين التونسيين والعرب والعالميين، موزّعين على حفلي الافتتاح والاختتام وهم نضال الأشقر وروجي عساف وحنان الحاج علي من لبنان وسوسن بدر من مصر وأمين زنداغني وإلهام إينالي حميدي من إيران ويايا كوليبالي من مالي.
بالإضافة إلى ألوغبي ألادجي دين ومانويلا سوايرو، بول شاؤول من لبنان، داوود حسين من الكويت، يوسف عيدابي من السودان، وأيضا مجموعة الحمائم البيض للموسيقى الملتزمة، حسين المحنوش، فوزية المزي، منجي الورفلي، سعاد محاسن، وجليلة المداني من تونس.
ويحيي المهرجان ذكرى فنانين مسرحيين تونسيين رحلوا هذا العام هم منصف شرف الدين، محمد كدوس، عبدالغني بن طارة، ريم الحمروني، لسعد المحواشي.
كما يُقام خلال هذه التظاهرة معرض فوتوغرافي بعنوان “40 عاما تحت الأضواء” يوثق لتاريخ تأسيس المسرح الوطني في 1983 وذلك احتفاءً بمرور أربعين سنة على تأسيسه.
ويسلط هذا المعرض الأضواء على مختلف المحطات التي ميزت هذه التظاهرة على امتداد العقود الأربعة، من تجليات مسرحية ومن تحولات جمالية ومن رهانات فكرية وثقافية ومن قضايا اجتماعية وإنسانية.
وينظم معرضا آخر بعنوان “دروب”، والذي يعرض صورا فوتوغرافية لأصداء لحظات قوية على الخشبة تجعل منها الصور بجمالياتها الخاصة فنا قائما بذاته، انطلاقا من أن عين المصور تتجاوز في التقاط حركات الممثل على الخشبة حسية الصورة إلى أبعادها المجازية والاستعارية.
تحت شعار "بالمسرح نحيا.. بالفن نقاوم" تؤكد الدورة التي تنطلق من الثاني وحتى العاشر من ديسمبر المقبل أن المسرح مقاومة فنية من نوع خاص
وتعقد الدورة الرابعة والعشرون مجموعة من الورشات منها ورشة بعنوان “طريقة مايسنر في فن التمثيل” يديرها سكوت تالبوت من الولايات المتحدة ولسعد سعايدي من تونس، وورشة حول “تقنيات الرقص والأداء الحركي” يديرها طلعت سماوي من العراق، وورشة في الرقص الأفريقي يديرها الإسباني أولوي، وورشة في فن الرقص بالتعاون مع دريمز شباب يديرها لاسينا كون (مالي/تونس)، وكذلك ورشة في صنع العرائس المالية يديرها يايا كوليبالي من مالي، وورشة الواقع المعزز التي يديرها مارتان ويسنوكي وريمار دي لا شيفالري ونينا دي لا شيفالري من سويسرا.
وينظم المهرجان هذا العام لقاءات مهمة، أولها سيكون عن “مسرحة الرواية” ويشارك فيه الروائي الجزائري واسيني الأعرج واللبناني طلال درجاني، ولقاء ثان بعنوان “المسرح في إيران من الأداء التقليدي إلى الركح العصري”، سيشارك فيها مسرحيون من إيران وتونس، وسيقدم المالي يايا كوليبالي مداخلة حول فن العرائس، كما سينعقد لقاء حول 60 سنة من المسرح المدرسي في تونس ولقاء آخر بعنوان “40 سنة: مسرح وطني تونسي وأيام قرطاج المسرحية”.
وفي سعي نحو التجديد ومواكبة الحراك المسرحي العالمي، ينطلق المهرجان بداية من دورته الرابعة العشرين في تأسيس سوق مسرحية، أطلق عليها اسم “السوق الدولية لفنون الفرجة” (جيتي كاب) تهدف إلى دعم التعاون الدولي وتوسيع شبكات التبادل بين الفنانين من العالم العربي والأفريقي وبين محترفي فنون العرض من العالم، وتعزيز التعاون في مجالات الإنتاج والتوزيع وجمع التمويلات.
وتعود الأيام إلى أحضان المسرح البلدي وسط العاصمة التونسية، بعد أن أقيم حفل افتتاح دوراتها الأربع الأخيرة في مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة، وسيكون حفل الافتتاح الرسمي بالمسرح البلدي بالعاصمة بعرض أدائي من إسبانيا ويحمل عنوان “فاينال”.
يشار إلى أن أيام قرطاج المسرحية من أعرق المهرجانات المسرحية عربيا وأفريقيا، وهو الذي تأسّس في العام 1983 على يديْ الراحل المنصف السويسي، وكان ينظم كل سنتين بالتناوب مع أيام قرطاج السينمائية قبل أن يصبح موعدا سنويا. وهو يسلّط الضوء بشكل خاص على المسرحين الأفريقي والعربي إلى جانب تقديمه لعروض أخرى من مختلف قارات العالم.