مهاجرون مدعون للبراءة

الكثير من الشباب قدموا أنفسهم قرابين لقتال داعش تحت راية الدفاع عن الحسين والتشيع ووصل الخبل لدى البعض أن صار يقاتل في أوكرانيا دون أن نعرف عن أية قضية إسلامية يدافع هناك.
الاثنين 2022/08/22
قرية شيعية بامتياز تؤيد الخميني وخامنئي ونصرالله

هادي مطر مسؤول عن أفعاله. عمره 24 سنة. يوم يحاكم على محاولته اغتيال سلمان رشدي، سيحاكم وحيدا. الأحكام الجزائية في كل العالم أساسها توجيه الاتهام وإصدار الإدانة بحق الفرد.

المشكلة أننا لا نستطيع أن نترك الأمور هناك. ذهب مراسلو وكالات الأنباء العالمية إلى قرية يارون في جنوب لبنان، فوجدوها قرية شيعية بامتياز تؤيد الخميني وخامنئي ونصرالله. في تلك القرية ولد أبوي هادي ثم هاجرا إلى الولايات المتحدة. وإليها عاد والده حسن مطر. الأب “يحبس” الآن نفسه في بيته، ولكن ليس قبل أن يتأكد من رفع راية عاشورائية فوق الدار. بهذه المعطيات يمكن تخيّل البيئة التي نشأ فيها هادي في الولايات المتحدة. كانت هناك قرية يارون – النسخة الأميركية. لا يمكن استغراب ماذا تحمل تلك البيوت في المجتمع اللبناني المهاجر من صور. غسيل الدماغ لهادي لتنفيذ وصية “الإمام” بدأ مبكرا جدا ولا يفيد معه “حبس” الأب لنفسه في داره في قريته.

هذا نموذج شيعي شبيه لنماذج سنية جهادية تكررت مرارا خلال العقود الماضية. عوائل تهاجر بحثا عن حياة أفضل، ثم تتقوقع في غيتو من أقلية دينية أو عرقية وتنكمش. بعد فترة يصبح الغيتو نموذجا للمبالغة في التشدد، والمهاجر الذي يعيش فيه يجمع الجديد والقديم من أسوأ ممارسات الأقليات الدينية والعرقية بحق نفسها. هذه البيئات المتطرفة ترعاها الدعاية الإيرانية من جهة والتمويل والتطبيل الإخواني من جهة أخرى والمشهدية السلفية من جهة ثالثة. تلتقي هذه السلفيات أو تفترق، لا يهم. المهم هو قدرتها على إنتاج عينات من فئة هادي مطر. ثم تأتي وترسم قناع البراءة أو الإنكار على وجهها.

هؤلاء المهاجرون من مدعي البراءة مما فعل ابن الجالية هادي مطر عليهم أن يعيدوا النظر فيما يحيطون به أولادهم من مظاهر وممارسات بحجة الحفاظ على الدين والطائفة في بيئة المهجر

انحراف الشباب المهاجر من الجيل الأول أو الجيل الثاني قضية تتكرر دائما. قبل صعود الإخوانية والخمينية والسلفية، كان الانحراف إجراميا. أواخر الثمانينات، كانت مقاهي غرب لندن تغص بمهاجرين عرب امتهنوا القيام بعمليات سرقة بالتفصيل على القياس من محلات كبرى في شوارع التسوق المعروفة. كانت السرقات تتم لصالح مهاجرين آخرين أو زوار يتم عرض الخدمات عليهم. تريد بدلة باللون كذا أو القياس كيت من المحل الفلاني بربع السعر؟ انتظر قليلا وسيتم توفيرها لك. في مطلع التسعينات، لم يكن يتردد المهاجرون الشباب أو أبناء المهاجرين من التجوال بين طاولات المقاهي لعرض أثمن ما كان يتم تداوله في حينها، وهو الكمبيوتر المحمول. أجهزة مسروقة، غير مطلوب منك معرفة من كان صاحبها. ذروة عصابات المهاجرين كانت تلك التي تتاجر بالمخدرات على درجاتها المختلفة.

مقابل سوق الجريمة هذه كانت هناك أسواق جريمة للبيض وللسود وللصينيين وغيرهم. كل المجتمعات قادرة على إنتاج عينات الانحراف. أمثلة المافيات الإيطالية والروسية والتراياد الصينية أكثر من أن تحصى. لكن الانحراف في جاليتنا تحول من الجريمة، إلى العنف والتشدد باسم الدين. وصارت الأسر في سباق اللحى والحجاب والنقاب والأكل الحلال والتزاحم على الصفوف الأولى في المساجد والحسينيات للتقرّب من الإمام. الأم غير المحجبة يوم هاجرت، صارت تنافس ابنتها على الحجاب، والأب الذي قضى سنوات “الصياعة” في بلده، صار نموذجا لابنه في تقدم مواكب اللطم في المناسبات الجنائزية الحسينية التقليدية. حتى الجريمة صارت لصالح الدين. أموال المخدرات من لبنان وأفغانستان يتم غسيلها في الغرب لتعود مالا زلالا، يدعم “المجهود الحربي” لحزب الله أو طالبان.

عدوى التشدد خطيرة وتنتقل ما بين الأديان. الأقليات المسيحية المهاجرة من الشرق الأوسط تعلمت بدورها كيف تكون متشددة، وازدهر حضور القداسات في الكنائس وجمع التبرعات. الأم التي قضت أربعين عاما في أحضان زوجها، تريد لابنتها الشابة الآن أن تصبح راهبة.

في مثل هذه البيئة، اشتغل عداد الجهاديين والجهاديات الذين يختفون من مدارسهم ودكاكينهم ليظهروا انتحاريين في العراق وسوريا وغيرهما من البؤر الساخنة. ومثلهم، قدم الكثير من شباب لبنان والعراق والخليج أنفسهم قرابين لقتال داعش تحت راية الدفاع عن الحسين والتشيع. وصل الخبل لدى البعض أن صار يقاتل في أوكرانيا، دون أن نعرف عن أية قضية إسلامية يدافع هناك.

حسن نصرالله الذي لا يتوقف عن ذكر مناقب الخميني وأفضاله على الأمة.. صار لا يريد التعليق على استهداف سلمان رشدي من قبل شاب لبناني هو الابن الشرعي لفكر الخميني ونصرالله

في مثل هذه البيئة، تهربت الأسر من مسؤولياتها في ولادة مثل هذا الجيل المتشدد. في كل مرة كان جواب الأسر هو الانطواء. تبحث في قوله تعالى “ولا تزر وازرة وزر أخرى” خلاصها الذاتي –إن كانت على حق مخلصة في لومها لأبنائها- وخلاصها من الملامة المجتمعية، ومحاولها لخلاصها في ترفع الدول عن العقوبة الجماعية من خلال قوانينها التي تمتنع عن توجيه أصابع الاتهام إلى هذه الأسر كبيئة حاضنة أنتجت هؤلاء المتشددين.

نستطيع أن نبرّئ بعضا من أسر كبار قادة الإرهاب والتشدّد. أبناؤهم، الذين أنزلوا بلاء الإرهاب على بلادنا والعالم، كانوا متمردين على أسرهم قبل أن يتمردوا على المجتمعات. لم تكن أسرة أسامة بن لادن معروفة بإسلامها المتشدد. قراءة تاريخ أسرة أيمن الظواهري تشير إلى أجداد معتدلين بعلمانيتهم وبتدينهم. آخر ما يمكن أن توصف به أسرة حسن نصرالله هو أنها متشددة. لكن هؤلاء الأبناء اختاروا طريقهم بأنفسهم، وقرروا الذهاب إلى أبعد مدى في التأثير على من حولهم أولا، ثم في صناعة جماعات ومجتمعات متشددة، قامت بدورها في استيلاد أجيال لما يسمّى جيل الصحوة، في أشكاله الإخوانية والسلفية والخمينية.

ذهبت الأجيال الجديدة من المتشددين، عن وعي أو حماقة، بعيدا في التشدد والإرهاب. صار الظواهري في أخريات خطبه يلوم إسراف داعش في العنف وسفك الدماء. داعش ابتدأ حيثما انتهت القاعدة. القاعدة، لمن نسي في خضم التركيز الإعلامي على داعش، هو التنظيم الذي تسبب في بسط الخراب على الشرق الأوسط وضياع دول تحت احتلال غربي وإيراني. في آخر أيامه، هل كان للظواهري أن ينكر أن داعش هو الابن الشرعي للقاعدة؟ حسن نصرالله الذي لا يتوقف عن ذكر مناقب الخميني وأفضاله على الأمة، والذي لم يترك شاردة وواردة في حياة اللبنانيين لم يتدخل بها، صار لا يريد التعليق على استهداف سلمان رشدي من قبل شاب لبناني هو الابن الشرعي لفكر الخميني ونصرالله. لم يتراجع الخميني من قبره عن فتواه كي يتجنب نصرالله التعليق (أي الإشادة بتنفيذ فتوى/وصيّة الخميني).

بيئة يارون المهاجرة منتشرة أكثر مما نتصوّر، مرة شيعية ومرة سنية. هؤلاء المهاجرون من مدعي البراءة مما فعل ابن الجالية هادي مطر، عليهم أن يعيدوا النظر فيما يحيطون به أولادهم من مظاهر وممارسات بحجة الحفاظ على الدين والطائفة في بيئة المهجر. هم هاجروا لحياة أفضل لهم ولأبنائهم، ولم يهاجروا ليجمعوا التبرّعات للإخوان والجهاديين وحزب الله، أو ليكون أولادهم جنودا في آلة الموت التي تسحق الشرق الأوسط.

9