من يحلّ أزمة التعليم في تونس: الوزير أم الحكومة

منذ ثورة 2011، مرّ الكثير من الوزراء على وزارة التربية والتعليم في تونس. منذ اللحظة الأولى يطلق الوزير تصريحات قوية بشأن امتلاكه مقاربة للإصلاح وإعادة القطاع الأهم في تونس إلى دوره القديم الفعال، الذي جعل خريجي الجامعات التونسية مطلوبين شرقا وغربا.
لكن الوزير الذي يأتي يخرج كما دخل. لا شيء يتحقق من شعاراته على أرض الواقع، لكن أفضل ما يحقق أنه يحمل أصدقاءه وأبناء حزبه أو مجموعته السياسية إلى المواقع المتقدمة في الوزارة فيصيرون عينه التي يرى بها ويده التي يبطش بها ضد من يعارضون خياراته.
واختراق الوزارة ووضع اليد عليها من أسوأ ما جلبته ثورة 2011 للتونسيين بالنظر إلى الدولة على أنها غنيمة إن تركتها فسيضع غيرك يده عليها. وكلّما جاء وزير قام بطرد أصدقاء سلفه ووضع أصدقائه مكانهم. ثم يتساءل الناس لماذا تأخر الإصلاح.
◄ حين تفقد الدولة مقاربتها للإصلاح فإنها تترك المقود للأمزجة الشخصية للوزراء، فهذا يريد تدعيم حضور اللغة الفرنسية والآخر يريد تعميم الإنجليزية
ولا ينسى كذلك أن يلوّح بالعصا في وجه المعلمين والأستاذة بأن الدروس الخصوصية ممنوعة، وأن عليهم أن يكفّوا عن الإجازات المرضية، ويضيّق عليهم في الوقت بأن يجعل العطل مخصصة لإصلاح الامتحانات وليس للراحة.
أغلب وزراء التربية الذين تعاقبوا على الوزارة بعد 2011 كانوا من قطاع التعليم، مدرسين بالثانوي أو الجامعة، ومع ذلك فإن الهدف الأول الذي يضعونه للإصلاح كان معاداة المدرّسين، وكأنّ الإصلاح يجب أن يكون من فوق، مستبطنين مقاربة سلطوية تقوم على فرض الأمر الواقع بدلا من جعل الحوار مع القطاع أرضية داعمة للإصلاح.
وأغلب هؤلاء الوزراء كانوا نقابيين أو من مجموعات حزبية ذات نفوذ في الوزارة وفي النقابات. والمنطق يقول إنهم سيكونون الأقدر على بناء حوار هادئ بين الطرفين. يقنعون الوزارة بحلّ المسائل الخلافية والكف عن دور من يتصيد أخطاء العاملين في القطاع، وأن تتفهم الدور الذي يقومون به في ظروف صعبة مع تراجع الإنفاق الحكومي على القطاع وارتفاع التكاليف وتبدل المزاح العام تجاه التعليم من دور القطاع المقدس الذي يكون مصعدا نحو المنزلة الاجتماعية إلى قطاع هامشي لا يقف أمام البدائل الجديدة مثل كرة القدم كمدخل للثراء السريع أو الهجرة غير النظامية للبحث عن حلول سحرية خارج البلاد.
من واجب الوزارة أن تستمع لصوت العقل وتقترب من مشاكل القطاع وشواغله، ومن واجب المربين، وخاصة النقابات، أن تقف على حقيقة واقع البلاد المالي، وهل أن الدولة ما تزال قادرة على الإنفاق بسخاء كما كان يحصل في السابق. الحوار إن لم يفتح أعين النقابة عن الوضع الصعب لتونس، فهو سيجعلها ويجعل القطاع في مرمى الانتقادات والغضب الشعبي مثلما جرى مع نقابة التعليم الأساسي (جماعة التعليم الأساسي) حين ركبت رأسها وأصرّت على حجب نتائج الامتحانات.
ماذا كسبت الحكومة من تعيين محمد علي البوغديري، وقد كان مساعدا للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ويتفاوض باسم المنظمة النقابية مع الحكومة في ملفات كثيرة، ويفترض أنه “عارف بالبير وغطاه”.
لم يحرص البوغديري على تدعيم جسر التقارب بين الدولة والنقابة. وعلى العكس، فقد أثّرت خلافاته داخل الاتحاد ووقوفه في الصف المعارض للأمين العام نورالدين الطبوبي على أدائه، وبدا متشنجا أكثر من اللازم، وصبت إجراءاته الزيت على نار الخلاف، وهو وضع لا تريده السلطة، فلا هو انتصر على الاتحاد ولا هو جلب الاستقرار لقطاع تراهن عليه الحكومة ليكون قاطرة للاستقرار الاجتماعي.
وتعمل السلطة على إطفاء نار الخلاف التي أشعلها البوغديري بالرغم من أنه لم يخف حماسه لمسار 25 يوليو 2021 وللرئيس قيس سعيد شخصيا وأطلق تصريحات فيها مديح وتأكيد على الولاء. لكن السلطة تقيس الأمور بمقياس مصلحتها، ويمكن أن تضحّي بصديق أو موال متحمس وجلب شخص “محايد” أو “متنطع”، كما يطلق البعض على الوزيرة الجديدة سلوى العباسي، يقدر على التهدئة.
وفي لقائه مع الوزيرة الجديدة أظهر قيس سعيد تفهما لوضع المدرسين النواب (مدرسون مؤقتون برواتب ضعيفة والنقابة تطالب بتسوية وضعياتهم). ودعا قيس سعيد الوزيرة الجديدة للتربية إلى “ضرورة إيجاد حلول عاجلة للمعلمين النواب بناء على مقاييس موضوعية حتى يتمّ القطع نهائيا مع هذا الوضع الذي ما كان له أن يكون وما كان له أن يستمر لو كانت الاختيارات منذ البداية سليمة وصادقة ولم تتسلل إليها حسابات السياسة”.
وفضلا عن الأزمة المالية التي تعيق تسوية أوضاع النواب، فإن “الوزراء النقابيين” تعمّدوا التسويف والمماطلة في حل هذا الملف لمعرفتهم بأن التوظيف المؤقت لهؤلاء تم بوساطة من نقابيين، وقد يكون من بينهم “أنصار” لهذه المجموعة الحزبية أو تلك ممن يختلف معهم الوزير الذي لا يريد أن يعطي “نصرا سياسيا” لنقابات التعليم على حسابه.
رافقت تعيين الوزيرة الجديدة خطوات تهدئة من مثل الوعد بتسوية ملف المدرسين النواب، وكذلك الحديث عن رفع التجميد عن رواتب لمدرسي التعليم الأساسي كان البوغديري قد جمّدها لكل من رفض الكشف عن نتائج الامتحانات وتسليمها لمدراء المدارس. وتمت إعادة بعض المدراء إلى أماكنهم التي أخرجوا منها ضمن معركة ليّ الذراع مع الوزير السابق، ولا يعرف إن كان الإجراء سيتسع ويشمل النقابيين الذين سحبت منهم إدارة الكثير من المدارس (350 مديرا).
◄ الوزير الذي يأتي يخرج كما دخل. لا شيء يتحقق من شعاراته على أرض الواقع، لكن أفضل ما يحقق أنه يحمل أصدقاءه وأبناء حزبه أو مجموعته السياسية إلى المواقع المتقدمة في الوزارة
الوزيرة الجديدة متفقدة (برتبة مفتش) تعليم ثانوي ولديها معرفة بمشاكله وطرق إصلاحه وتطويره على المستوى البيداغوجي، وهو ما عكسته نصوص وتدوينات سابقة لها على موقع فيسبوك. ورغم ذلك، فإن الإصلاح ليس مهمتها، ودورها تنفيذي بالأساس، ولا يمكن تحميلها ما لا طاقة لها به والنهوض بدور ليس دورها.
قد تساهم العباسي بأفكار وتقدم مقاربة مكتوبة، لكن الإصلاح مهمة الحكومة بالدرجة الأولى. عليها تشكيل إدارة مركزية تكون مهمتها صياغة مقاربة للإصلاح تراعي خصوصية تونس وهويتها وحاجتها إلى تعليم قادر على خدمة التنمية، وليس تجارب مرهونة إلى شعارات أو تستنسخ تجارب الآخرين.
حين تفقد الدولة مقاربتها للإصلاح فإنها تترك المقود للأمزجة الشخصية للوزراء، فهذا يريد تدعيم حضور اللغة الفرنسية (التي تأخذ حيزا كبيرا في جدول التدريس وبضارب قوي)، والآخر يريد تعميم الإنجليزية بشكل مسقط بإلغاء الفرنسية (وإحلالها محلها من دون دراسة طريق التنزيل ومرحليّته)، وثالث يتغنى بالتعريب، وكأن التعريب الشكلاني سيحل كل مشاكل التعليم.
في سنوات سابقة كان إصلاح التعليم مزادا سنويا للشعارات لكن من دون التحرك ولو خطوة واحدة. والسبب أن الوزارة لا تمتلك رؤية ولا تريد أن يقال إنها هي من قدمت المقترحات وفرضتها فتحاسب على الفشل، ولذلك كانت الحيلة التي اعتمدها الوزراء السابقون هي تحويل الإصلاح إلى مهمة جماعية تشترك فيها النقابات كطرف رئيسي وتأتي بخبراء من صفها فيما تكتفي الوزارة ببعض إدارييها للمشاركة في استعراض الإصلاح، والجميع يعرف أن الأمر لا يتجاوز اللعبة السياسية.
قد يقول البعض إن الحل جاهز، وموجود، وهو يكمن في تنفيذ ما جاء في الاستشارة الوطنية حول التعليم حتى “يكون معبّرا عن إرادة المجموعة الوطنية مجسدا لتطلعاتها مكرّسا لاختياراتها”. لكن هذه الاستشارة بالرغم من مشروعيتها الشعبية، إلا أنها لا يمكن أن تكون لوحدها بوابة الحل، صحيح أنها تعبير ديمقراطي شعبي، لكن الإصلاح لا تقدر عليه سوى النخبة المختصة في التعليم وفي غيره من القطاعات.