من الحصاد الأكبر 1987 إلى الوعد الصادق 2024 - ما لم يتعلمه الحرس الثوري

الحرس الثوري كمؤسسة عسكرية لم يقرأ تجربته التي تشير، من بين ما تشير إليه من استنتاجات، إلى أن المزيد ليس بالضرورة أفضل وأن الابتكار وإعادة النظر في الأساليب القتالية العسكرية هما المخرج.
الاثنين 2024/11/04
نريد المزيد

لا يمكن الاستهانة بالإمكانيات العسكرية لإيران، وخصوصا تلك التي يمتلكها الحرس الثوري. تتوفر للحرس إمكانيات بلد كامل يستطيع أن يسخرها كما يشاء. وفوق الإمكانيات، يمتلك الحرس أذن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. باستطاعته تحويل أيّ فكرة إلى قرار سياسي ملزم للدولة الإيرانية.

يمكن أن تطلق على إيران الكثير من الأوصاف الانتقادية بحكم موقفك السياسي منها، لكن لا أحد يمكن أن يقول إن إيران ليست أمة عريقة. الأمم العريقة تستطيع أن توفر لمشاريعها الكثير من الإمكانيات البشرية بمعارف متراكمة، تنضاف إلى مليارات الدولارات التي توفرها عائدات النفط. هذه المعطيات هي ما جعل إيران تواصل حربها في الثمانينات مع العراق، وهي المعطيات نفسها التي توفر العناد الكافي لاستمرار التحدي الإيراني للغرب ولإسرائيل. لكنها معطيات خطرة تم توظيفها في غير صالح إيران، ونحو هدف لا يمكن تحقيقه. كل المؤشرات تشير إلى أن فشل طهران في الحرب العراقية – الإيرانية مرشح للتكرار.

قبل يومين قال كمال خرازي مستشار المرشد الأعلى إن إيران بصدد توسيع نطاق مديات صواريخها البالستية. التقديرات الأولية لعمليتي الوعد الصادق - 1 والوعد الصادق - 2، أن إيران أطلقت على إسرائيل ما يزيد عن 300 صاروخ بالستي. في أبريل احتلت الصواريخ البالستية أكثر من نصف ما أطلق على إسرائيل، في حين شكلت المسيرات وصواريخ كروز البقية. فشل الهجوم فشلا ذريعا ولم تتمكن إيران من تسجيل ولو إصابة واحدة. وعندما أعادت الكرة في الوعد الصادق - 2 مطلع الشهر الماضي أدركت أن لا فرصة للمسيرات وصواريخ كروز حتى في مشاغلة الدفاع الجوي الإسرائيلي بغية إتاحة الفرصة أمام الصواريخ البالستية لضرب أهدافها، فركزت على استخدام طرازات متقدمة من الصواريخ بعضها فرط صوتي، وهو ما يمثل تحديا بالسرعة والمناورة للمنظومات الدفاعية الإسرائيلية. وقد تمكن ما يعادل ثلث هذه الصواريخ من الوصول إلى أهدافه في عرض بصري لافت. سرب الإسرائيليون معلومة أنهم اختاروا عدم التصدي لبعض الصواريخ المهاجمة لأن مساراتها كانت تشير إلى استهداف مخابئ لطائرات حربية في النقب، وأن كلفة تصليح المخابئ الكونكريتية بسيطة جدا مقارنة مع كلفة التصدي لها بصواريخ متطورة تكلف الملايين. المؤكد أنه بدخول منظومات الصواريخ فرط صوتية الإيرانية، صار من الصعب الحسم بقدرة دفاع أي منظومة إسرائيلية أو غربية على المنع التام لاختراق الصواريخ أجواء إسرائيل وضربها أهدافا. تبقى، من الناحية العملية، عملية المفاضلة بين مستويات الأذى ومستويات الرد اللاحقة، وهو ما صار واضحا في عملية الرد المنضبطة عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بمهاجمة أهداف إيرانية في أكثر من محافظة منها طهران نفسها.

◄ العقلية العسكرية البعيدة عن الابتكار مقتل الحروب. تصريحات خرازي قبل يومين لا تشي بأن الكثير قد تغير منذ عام 1987 إلى اليوم. الموجات البشرية عوضتها موجات الصواريخ، لكن النتيجة واحدة

ما يريد خرازي قوله إننا سنصنع المزيد من هذه الصواريخ وبمديات أبعد. العدد هو الرد الإيراني لمعالجة الفشل في تحقيق إصابات حقيقية واختراقات تتيح من الناحية المعنوية -كحد أدنى- أن تقول إيران إنها انتقمت من قتل إسرائيل أمين عام حزب الله حسن نصرالله وخليفته هاشم صفي الدين ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية مع كل قيادات الصفوة في حزب الله وحماس. روح يحيى السنوار لا تزال تبحث عمن يطلب الثأر لها.

هذه الطريقة في الاستعداد للرد تعيدنا إلى أجواء الحرب العراقية – الإيرانية وتكشف أن الحرس الثوري الإيراني لم يتعلم كثيرا من تجاربه على مدى عشرات السنين، خلال تلك الحرب ومن بعدها، وصولا إلى عمليات الوعد الصادق التي نفذها هذه السنة. رغم فشل أسلوب الهجوم وما يمكن أن يحققه، يصر الحرس على أن المزيد منه يمكن أن يحقق ما عجز القليل عن تحقيقه. الحرس الثوري الإيراني كمؤسسة عسكرية لم يقرأ تجربته التي تشير، من بين ما تشير إليه من استنتاجات، إلى أن المزيد ليس بالضرورة أفضل، وأن الابتكار وإعادة النظر في الأساليب القتالية العسكرية عادة ما يكونان المخرج.

على الضد من رغبة قادة الجيش الإيراني ممن تلقوا تدريبهم في المدارس العسكرية الغربية، اختار الحرس عام 1986 الاستمرار بأسلوب الهجمات المتكررة بالمزيد من القوات على دفاعات الجيش العراقي المكلفة بحماية مدينة البصرة. كان الجيش العراقي للتو قد بدأ بالتعافي من نكبة احتلال مدينة الفاو جنوب البصرة، وأعد خططا أفضل لصد الهجمات الإيرانية نحو أهم قاطع للعمليات العسكرية وهو شرق البصرة. بدأ هجوم فترة أعياد الميلاد عام 1986 على جزيرة أم الرصاص بقوات كبيرة من الحرس والمتطوعين وبعض قوات الجيش الإيراني بمسمى كربلاء - 4. بعد فترة قصيرة، رد العراقيون واستعادوا الجزيرة وقتلوا وجرحوا أكثر من ربع القوات المهاجمة. أصر الحرس على الهجوم مرة أخرى بعد أسبوعين، وبدأت عمليات كربلاء – 5 لاستهداف منطقة ضيقة في قاطع شرق البصرة. وبدلا من إدراك خطورة الزج بما يوازي 150-200 ألف من المقاتلين من الحرس والباسيج والجيش في شريط ضيق عند بحيرة الأسماك وكشك البصري ونهر جاسم والشلامجة، اختار الحرس أن يهجم بالمزيد والمزيد من القوات على جبهة لا تتجاوز 10 كيلومترات وجه العراقيون نحوها فوهة 3 آلاف مدفع ميدان وقاذفات أنبوبية وهاون ثقيل، بالإضافة إلى الطيران الحربي من مقاتلات ومروحيات. لم يجد العراقيون أمام هول الخسائر العددية الإيرانية من مسمى أفضل للمعركة الممتدة من مطلع يناير 1987 إلى أواخر فبراير سوى “الحصاد الأكبر”. قتل 40 ألف إيراني وأصيب أكثر من 80 ألفا، أي بمجموع خسائر يتجاوز نصف القوات المهاجمة. قتل مع القوات الإيرانية قادة كبار في الباسدران (الحرس) أهمهم قائد الفرقة المهاجمة حسين خرازي. كان “الحصاد الأكبر” عام 1987 بداية النهاية للحرب العراقية – الإيرانية. كان مقتل القوات المهاجمة هو إستراتيجية إضافة المزيد والمزيد من القوات إلى المعركة، دون أدنى اعتبار لخطورة التكدس وتسهيل مهمة القوات العراقية في إلحاق خسائر جسيمة بالإيرانيين. الجيش الإيراني، الذي دفع بدوره الكثير من الخسائر في  كربلاء – 5، أدرك أن الحرب انتهت وأن المسألة مسألة وقت. كان على الإيرانيين أن يجدوا قائدا أكثر براغماتية وكفاءة من ممثل الخميني في مجلس الدفاع الأعلى الرئيس (آنذاك) حجة الإسلام علي خامنئي. أصبح رئيس البرلمان الإيراني وقتئذ علي أكبر هاشمي رفسنجاني هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الإيرانية، وانتهت على يديه الحرب مع العراق.

خامنئي، أول من قاد الحرس الثوري الإيراني منذ تأسيسه عام 1979، لا يزال هو ومن معه من قادة الحرس، يفكرون بالطريقة نفسها ويراهنون على العدد. يعتقدون أن الخلل في مهاجمة إسرائيل يمكن معالجته بإطلاق المزيد من الصواريخ، من دون النظر إلى ما تحقق إلى اليوم من نتائج. وكما أدى التكدس في الزج بالقوات في كل معارك الحرب العراقية – الإيرانية إلى انتكاسات كبرى للقوات الإيرانية، كان أخطرها وأشدها إيلاما عملية كربلاء – 5 أو “الحصاد الأكبر”، فإن تصريحات خرازي قبل يومين لا تشي بأن الكثير قد تغير منذ عام 1987 إلى اليوم. الموجات البشرية عوضتها موجات الصواريخ، لكن النتيجة واحدة.

العقلية العسكرية البعيدة عن الابتكار مقتل الحروب. وأخطر ما في أمثال هذه العقلية هو العنجهية والإصرار على أن المزيد يمكن أن يصلح الخلل في الطريقة. كان من الوارد القول إن إيران لا بد أن تكون قد تعلمت من تجربتها المرة في الثمانينات. يبدو أن هذا صعب، وأنها بصدد تكرار الأخطاء ذاتها.

9