من اسمع إلى اقرأ إلى شاهد إلى اسمع مرة أخرى

الاستماع إلى الراديو كان يوفر مشهدية بصرية متخيلة؛ تستمع فتتخيل ما يجري. شيء شبيه بمطالعة رواية فتجد الأحداث وكأنها أمامك.
الخميس 2024/02/15
لا يمكن الاستغناء عن الراديو

للراديو مكانة مركزية في السيارة. قبل سنوات كتبت أن الراديو لن يموت بسبب وجوده في السيارة. هذا الأمر أكده تحالف من المحطات الإذاعية العالمية بالأمس. لا يمكن الاستغناء عن الراديو، رغم أنه اختفى من بيوتنا منذ وقت طويل. لا تزال هناك بدائل بالطبع يوفرها الهاتف الذكي الذي يقدم إلى المتابعين كل المحطات الإذاعية العالمية تقريبا.

لكن أية إذاعة وأي راديو؟ انتبهت منذ فترة إلى أن قدرتي على تقبل المعلومات سماعيا تراجعت كثيرا. كان الراديو مصدر المعلومات الأساسي بالنسبة إليّ في أوائل مرحلة تشكيل الوعي السياسي. الاستماع إلى برامج راديو مونت كارلو أو صوت أميركا أو بي بي سي كان يعد بمثابة المعادل الموضوعي للإنترنت اليوم. لم يكن يهمني الاستماع إلى الأغاني من هذه المحطات. الأهمية، بالنسبة إلى شاب في مقتبل العمر، كانت تبدأ بنشرات الأخبار والتحليلات. السماع كان يوفر مشهدية بصرية متخيلة؛ تستمع فتتخيل ما يجري. شيء شبيه بمطالعة رواية فتجد الأحداث وكأنها أمامك.

عندما انتشرت الفضائيات، تزعزعت هذه المكانة. وعندما ترسخت الفضائيات الإخبارية كحضور حاسم في مشهد الأخبار والتحليلات، بل واللغط والكلام الفارغ، تراجعت القدرة على الاستماع إلى الراديو وبناء الصورة المتخيلة. وكما أشرت، فإن السيارة أنقذت الراديو، لكنها لم تنقذ قدرتي على تحويل الصوت إلى صورة متخيلة في ذهني بسهولة. استمر التراجع، بل وزادت معدلاته مع توفير الإنترنت لبديل أهم حتى من الفضائيات الإخبارية، النص والصور والفيديو، وفي أي وقت تشاء.

مؤخرا، صار من المألوف أن توفر المواقع الإخبارية والصحف قراءة صوتية للخبر والآراء. هي إضافة مهمة رغم أنها وسيلة أقل سرعة لتلقي الأخبار والتحليلات. نحن نقرأ أسرع بكثير مما نسمع أو ننطق. لكن مع وجود الكسل، يمكن لهذه الطريقة في تقديم المعلومة أن تكون بديلا عن القراءة. السماع فعل تلقّ سلبي، على عكس القراءة التي هي فعل تلقّ إيجابي. يمكن أن تستدير وتتكلم مع من بجانبك وأنت تسمع، بينما تحتاج إلى التركيز والانقطاع عن المطالعة لكي تستطيع الرد على سؤال.

ثمة مشكلة أخرى في الاستماع إلى النصوص. أعترف بأني لا أستوعب النص المسموع مثلما أستوعب النص المطبوع. من الممكن الاستماع إلى خبر مكتوب بصيغة صوتية. لكني وجدت أن الاستماع إلى رأي أو تحليل يفقدني الكثير من الفهم العميق. ربما هي ملكة ضاعت مني يوم تحولت الفضائية الإخبارية إلى بديل عن الراديو الإخباري، وصرت أحتاج إلى مشاهدة الصورة مع الاستماع إلى الصوت.

أطرف ما يحدث معي الآن هو أني أجد نفسي أقرأ وأسمع في الآن ذاته. أفتح النص العربي أو الإنجليزي المتوفر صوتيا أيضا على مواقع الأخبار أو الصحف، وأشغل الصوت وتتبع عيناي النص في الوقت نفسه. تذكرت كيف كنا نتعلم القراءة بالنطق في المدارس الابتدائية. شيء مربك حقا. بعد سنوات طويلة من الاستماع إلى الراديو ثم المطالعة ثم الفضائيات ثم الإنترنت، تجد نفسك تعود إلى استقبال المعلومة بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقة تقديم معلمة القراءة النصوص لنا في أولى المراحل الدراسية. شيء محرج، وليس مربكا فقط.

18