منْ يحتاج منْ.. تونس أم صندوق النقد

تصنيف تونس دولة سلبية يرسل إشارة واضحة إلى أن الصندوق سيغلق ملف تمويلها وعليها أن تبحث عن بدائل من خارجه.
الأحد 2024/01/14
تحسين أوضاع التونسيين يحتاج إلى تمويلات خارجية

قابل محللون اقتصاديون وجمهور مواقع التواصل الاجتماعي قرار صندوق النقد الدولي وضع تونس في القائمة السلبية للعام الجديد بالاستخفاف والاستهانة بما يمكن أن يفعله الصندوق تجاه تونس، معتبرين أن تونس شقّت طريقها في الاتجاه الذي تريده بقطع النظر عما يقوله الصندوق أو يفعله.

منطق السيادة الوطنية مهم، وهناك دول تتفاخر بأنها لا تحصل على قروض الصندوق وتعتبرها شكلا من أشكال الهيمنة والاستعمار المقنع. لكن هذه الدول في أغلبها دول نفطية أو دول ذات اقتصاد قوي قادر على خلق الثروة دون الحاجة إلى تمويلات من المؤسسات المالية الدولية.

أما بخصوص تونس، فالوضع مختلف تماما خاصة بعد أن عاشت فوضى مالية واقتصادية وسياسية بعد ثورة 2011 أفقدت اقتصادها توازنه ومست القطاعات الحيوية التي كانت تحقق التوازن الصعب بشق الأنفس.

◙ الرئيس التونسي لا ينظر إلى ملف الدعم من زاوية التكاليف التي تثقل كاهل ميزانية الدولة وطرق خفضه، وإنما ينظر إليه من منطلق انحيازه إلى الفئات الفقيرة

وقاد التركيز على الخلافات السياسية، وإغراق البلاد بالانتخابات تلو الأخرى، والسعي لشراء السلم الاجتماعي وترضية النقابات بزيادات الرواتب، إلى تبديد المال العام وتهميش السياحة والزراعة والاستثمار، وهو ما يفسر ارتباك الحكومة الحالية في البحث عن مخارج للأزمة بالاعتماد على الذات، كما يدفع إلى ذلك الرئيس قيس سعيد.

يمكن النظر إلى الاعتماد على الذات كخطوة مرحلية تدوم سنة أو سنتين، لكن لا يمكن أن يتم اعتمادها بشكل دائم. لا تقدر الحكومة أن تستمر في فرض الضرائب أو اللجوء إلى البنوك المحلية لجمع التمويلات الكافية لسد الثغرات في الموازنة أو تمشية مشاريع متوقفة أو توفير الرواتب، وفي نفس الوقت الإيحاء بأن الدولة تمتلك القدرة المالية الكافية، وأنها تحتاج إلى وقت لإنجاح حربها على لوبيات الفساد والاحتكار واستعادة أموالها من رجال الأعمال.

هذا الخطاب، رغم أنه يزرع الثقة بالدولة وقدرتها ويعيد لها هيبة فقدتها في ظل حكومات الفوضى، يعطي انطباعا خاطئا عن الوضع ويجعل الناس يعتقدون أن البلاد لا تمر بأزمة، وأن وضعها مريح، فيزيدون من المطلبية المغالية، ويستمر البعض بالاعتصامات والإضرابات والعرائض التي تطالب بالحقوق.

إن خطاب الطمأنة واسترضاء الشارع وتجنب صدمته بالحقيقة سيجعل أي خطوة مستقبلية للإصلاح مغامرة، خاصة تصويب أداء الدولة أو التفكير في ترشيد الإنفاق بما في ذلك حصر موضوع الدعم في الفئات التي تستحقه.

تحتاج الدولة أن تكف عن الإنفاق الاستعراضي في الإدارة، وأن تغير الأولويات من التوظيف والإنفاق والدعم الاجتماعي إلى مسار الاستثمار ودعم الاقتصاد وإسناد المؤسسات الصغرى من أجل خلق الثروة.

لا يوجد تناقض بين الحرب طويلة الأمد التي يخوضها قيس سعيد على الفساد والبيروقراطية وبين مصارحة الناس بوضع البلاد وظروفها الصعبة. ليس أفضل من هذا وقتا للمصارحة، فالناس الذين يصفقون لمعركة تفكيك اللوبيات ويرتفع منسوب ثقتهم بالدولة ورموزها سيتقبلون المصارحة، وعلى العكس سيعتبرونها ضرورية ولن يحملوا الحكومة الحالية ولا الرئيس سعيد مسؤولية ذلك، وقد شاهدوا بأعينهم الفوضى الشاملة التي عرفتها تونس منذ 2011.

◙ تونس والصندوق في حاجة إلى الحوار والبدء بالإصلاحات مع تعديل الشروط والمطالب بشكل مرحلي لحين الوصول إلى تسوية واضحة

إن السياسة الحالية، التي تقوم على الإيحاء بأن الدولة قادرة على إدارة الأزمة دون حاجة لأحد في الداخل والخارج ويكفيها فقط استرجاع ما نُهب منها من أموال، ستفتقد صلاحياتها بعد سنة أو سنتين حين تكتشف الحكومة أن ما ستسترجعه من رجال الأعمال وما ستجمعه من ضرائب لن يحل مشكلة الرواتب لوحدها في أشهر معدودة، وأنها ستظل تبحث عن مصادر جديدة للمال.

يعتقد البعض من المثقفين والسياسيين والنقابيين أن التوجه إلى صندوق النقد الدولي يعني الارتهان للخارج وتنفيذ أجندات غير وطنية، ويرون أن الاعتماد على الذات خيار وطني يجب التمسك به. هذا كلام يردده الكثير ممن يعملون في مؤسسات الدولة، والذين لم يتأثروا بالأزمة إلا في حدود مع سياسة الزيادة في الرواتب. لكن الفئات الضعيفة والفقيرة والطبقة الوسطى تشعر بوقع الأزمة بشكل أكبر ولا تهمها الشعارات بقدر ما يهمها أن تنهض الدولة بدورها في حل الأزمة.

هل تمتلك الدول بدائل للحصول على تمويلات من جهة أخرى غير الصندوق. المؤشرات تقول إن الوعود موجودة لكن الفعل مفقود بما في ذلك من الأشقاء في دول الجوار أو الخليج، وكذلك من الأوروبيين الذين يعانون أزمات خاصة بهم، وهو ما يجعل بوابة الصندوق هي الأقرب والأجدر بالتفكير فيها.

لا يجب أن يتحول الاستخفاف بموقف صندوق النقد لتونس كدولة سلبية إلى موقف رسمي، لأن التنصيف يرسل إشارة واضحة إلى أن الصندوق سيغلق ملف تمويل تونس وعليها أن تبحث عن بدائل من خارجه، وهو أمر معقّد خاصة أنه يمنعها من الحصول على تمويلات من جهات أخرى بما في ذلك الاتحاد الأوروبي أو دول الخليج. الجميع يشترط التمويل والاستثمارات بالاتفاق مع الصندوق.

كما أنه ليس من مصلحة صندوق النقد الدولي القطيعة مع تونس وتركها تواجه مصيرها لوحدها في ظل استحكام أزمتها المالية. والأفضل للطرفين هو البحث عن مشترك
ولو بحده الأدنى، أي مساعدة تونس على الانتقال من وضعها الصعب
عبر التمشي التدريجي، ودعم الإصلاحات الممكنة حاليا، وتأجيل النقاش بشأن عناصر الاختلاف إلى وقت لاحق.

◙ هناك دول تتفاخر بأنها لا تحصل على قروض الصندوق وتعتبرها شكلا من أشكال الهيمنة والاستعمار المقنع. لكن هذه الدول في أغلبها دول نفطية أو دول ذات اقتصاد قوي

على الصندوق أن يتفهم مآخذ تونس من اللجوء إلى الاقتراض بشروط صعبة تهدد استقرارها، وهو ما يشير إليه الرئيس سعيد باستمرار من خلال استدعاء ثورة الخبز في يناير 1984 التي راح ضحيتها العشرات احتجاجا على “تحرير” سعر الخبز ورفع الدعم كليا، وهو قرار كان استجابة تونسية لمقاربة الإصلاح الهيكلي الذي طرحه الصندوق وقتها، واضطر إلى سحبها بعد أن أدت إلى انتفاضات في دول أخرى مثل مصر والأردن.

هناك تصلّب غير مفهوم تجاه تونس، خاصة بعد الكلام الذي أطلقه ممثل الصندوق في الشرق الأوسط جهاد أزعور، الذي اشترط أن تقوم تونس بإلغاء الدعم بشكل كامل من أجل العودة إلى دراسة ملف القرض الذي تطالب به، والمقدر بـ1.9 مليار دولار على أربع دفعات.

هذا الشرط يبدو أقرب إلى موقف سياسي منه إلى أسلوب مؤسسة مالية دولية عرفت بالمرونة في التعاطي مع الأزمات الاقتصادية خلال عقود. ذلك أن الدعوة إلى إلغاء الدعم تعني آليا الاصطدام بالرئيس سعيد الذي يرى في رفع الدعم أو إلغائه “خطا أحمر” يمس من مقاربته في الحكم وشعبيته.

لا ينظر الرئيس التونسي إلى ملف الدعم من زاوية التكاليف التي تثقل كاهل ميزانية الدولة وطرق خفضه، وإنما ينظر إليه من منطلق انحيازه إلى الفئات الفقيرة التي كان لها وزن كبير في الانتخابات الرئاسية عام 2019، والتي أوصلته إلى سدة الحكم، ولا يريد أن يتخلى عنها كما تخلت عنها حكومات سابقة.

وبالنتيجة، فإن تونس والصندوق في حاجة إلى الحوار والبدء بالإصلاحات مع تعديل الشروط والمطالب بشكل مرحلي لحين الوصول إلى تسوية واضحة. كلاهما يحتاج الآخر، لكن تونس في حاجة ماسة لثقة الصندوق التي تفتح لها باب التمويل من جهات أخرى.

6