منيرة القادري المسافرة بعيداً ببلادها الخيالية

عام 2015 وقع اختيار مؤسسة “فن جميل” بالتعاون مع مؤسسة كروسواي اليابانية على الكويتية منيرة القادري لتكون مشرفة فنية على رحلة “فن جميل” إلى اليابان.
سلّط ذلك الحدث الضوء على حياة وفن القادري التي بدأت تنال قدرا من الشهرة بين مؤسسات الفنون المعاصرة في العالم في وقت مبكر من حياتها. ربما يعود السر في ذلك إلى أنها تربت وتلقت تعليمها وسط مناخات ثقافية عالمية يغلب عليها طابع الانتماء إلى فكر ما بعد الحداثة المتشعب الجذور والمتعدد في مصادره، وهو ما كان واضحا في أعمالها، إن من جهة التقنيات المختلفة التي تستعلمها أو من جهة الموضوعات التي تعالجها من خلال فنها.
تجمع القادري في فنها بين الإيحاء الروحي واستلهام الطبيعة التي لا يشكل وجودها حدودا فاصلة بين الإنسان ومحيطه. فالفنانة التي تعرف على سبيل المثال ما الصحراء بكل تأثيراتها النفسية والبصرية يمكنها أن تنتمي بطريقة استفهامية إلى الكائنات الخيالية التي مرت بتلك المساحة التي هي أقرب إلى أن تكون فكرة عن المطلق.
الحياة الخيالية بكل أبعادها
وإذا كانت القادري قد سعت إلى تطبيق عناصر الفن الاجتماعي على مجتمعها بشكل خاص والمجتمعات الخليجية بشكل عام فلأنها وجدت أرضا خصبة ساعدتها كثيرا على الربط بين الفكرة والصورة. وهي علاقة جدلية تجمع البيئي بالاجتماعي بالسياسي بالثقافي في صياغة فنية صادمة. لقد شكلت تلك العلاقة مصدر تحد بالنسبة إليها.
إنها لا تنظر إلى الصحراء بعينين غربيتين استشراقيتين غير أن نزهاتها هناك لم تكن تخلو من خيال غربي يعلو بفطنتها المحلية إلى مستويات الكشف المتجدد. ذلك نوع من المعرفة الذي لا يمكن إهماله أو النظر إليه جزئيا. فالفنانة لا تبحث في الصحراء عن مفردات تراثية بقدر ما تسعى إلى الاتحاد بالمشاهد الكونية التي تجمع الكائن البشري بالطبيعة. تلك محاولة لإحياء علاقة عميقة يعثر من خلالها الطرفان على أسباب حياتيهما في الوقت الذي يتحدان فيه.
ولدت عام 1983 في دكار بالسنغال. درست الفن طوال عشر سنوات في اليابان حتى حصلت على درجة الدكتوراه هناك عام 2010 وكانت أطروحتها تدور حول “جماليات الحزن في الفكر الشرقي”. عام 2014 عرضت أعمالها في متحف الفن الحديث “موما” بنيويورك ضمن معرض كان مخصصا لأهم فناني الخليج.
أما معرضها “كرافت” فقد أقامته في متحف سرسق ببيروت عام 2017. عام 2020 عرضت عملها “الربع المقدس” في متحف “بيت الفنون” بميونخ “ألمانيا” حيث أقيم هناك معرض لأهم فنانات الخليج. وقضت سنوات في بيروت ثم انتقلت إلى برلين حيث تعيش وتعمل الآن.
وعلى هامش معرضها في بيروت ألقت محاضرة بعنوان “القرن الأميركي: نهاية” كان موضوعها بمثابة هامش توضيحي للمعرض. فالفنانة غالبا ما تحذر من طغيان الثقافة الشعبية الأميركية على الحياة المعاصرة بدءا من وجبات الغذاء السريعة وانتهاء بالثياب، مرورا بالفنون وبالأخص فنا الموسيقى والغناء.
تناولت في محاضرتها هيمنة الوجبات السريعة غير أنها عرّجت بخفة على موضوع آخر لطالما اهتمت به يتعلق بغزو كائنات فضائية لكوكب الأرض وهي تقيم علاقة بين الأمرين حين جهزت إلى جانب مطعم للوجبات السريعة غرفة مظلمة يسبح فيها ساندويش هامبرغر كأنه مركبة فضائية.
تهتم القادري بظاهرة الثقافة العابرة للحدود والثقافات الساكنة والتقليدية. فبالرغم من خفة تلك الظاهرة غير أن هيمنتها اللافتة صارت تتحدى الثوابت الثقافية بحيث صارت بمثابة ماكنة لإنتاج قيم ثقافية جديدة، تشعر الفنانة أنها ستحل محل القيم التقليدية للشعوب بسبب ضعف المجتمع الخليجي الذي لم يعد قادرا على الدفاع عن نفسه بعد أن سيطر عليه نمط الحياة المترفة التي صنعها النفط.
ابنة جيلها
من وجهة نظرها فإن “النفط هو الأداة التي دمّرت الخليج” على الأقل ثقافيا. حين تتذكر جدها فإنها تفكر في الثقافة الصافية. ذلك أثر من زمن كان فيه صيد اللؤلؤ هو مصدر الرزق وليس النفط. ولكن الفنانة لا تفكر في أن تستعيد زمن جدها، فهي تدرك أنها تعيش في زمن الثقافة العابرة وهي ابنة ذلك الزمن الذي يستعرض تحولاته كل لحظة.
تنتمي القادري إلى جيل مختلف تماما عن الأجيال الفنية التي سبقته. اختلاف ذلك الجيل لا يكمن في التقنيات التي اعتمدها للتعبير عن استيائه أو نفوره أو غربته فحسب، بل وأيضا في تخليه عن مفاهيم ثقافية واجتماعية كانت سائدة إلى وقت قريب وكان الأفراد يضبطون إيقاع تفكيرهم وحياتهم وفقها.
يبدو التمرد الذي تعيشه القادري وجيلها أقرب ما يكون إلى الفوضى. وليس هناك من اعتراض إذا ما تسللت تلك الفوضى إلى طرق التفكير في الفن وطرق الرؤية وأساليب البحث عن بدائل لما هو مستقر وثابت ومتصل، بعضه بالبعض الآخر. هناك رغبة عميقة في الانفصال والقطيعة محاطة بالكثير من التوتر والرفض والنقمة وهو ما عبّرت عنه القادري حين التقطت حزمة من الصور تكشف عن التجاذب الطائفي الذي يشق المجتمع ويحيله إلى ركام متشائم من الأحداث التي تتميز برهاناتها السلبية على مستوى البناء الاجتماعي.
حزينة هي القادري وحزين فنها. ذلك حزن لا يلفّ الماضي وحده بل المستقبل أيضا. ذلك المستقبل الذي يمهد له المجتمع بدخوله متاهة الاستهلاك والكسل الريعي. حين يرى المرء أحد أفلامها لا يخرج برؤية متفائلة. فالفنانة لا تملك أن تتراجع عن الموقع الذي وصلت إليه من المعرفة. وهو ما يجسده موقفها الموزع بين مجتمعها القديم الذي يقع في مكان ثابت ومجتمعها الكوني الذي يتحرك بين عديد من الأمكنة من غير أن يكون معنيا في القبض على مكانه المقصود، فما من وجود لذلك المكان.
تلويحة وأغنية
تنتمي القادري إلى حدث يشدها، إلى لحظة تحتويها، غير أنها لا تنتمي إلى ثقافة أو مجتمع يمكن التأكد من علاماتهما الثابتة. إنها ابنة جيلها المتمرد على ما سبقه وعلى ما عاش وهو يرفض سلطته المطلقة. رأيت “وا ويلاه” وهو عنوان فيلمها الجنائزي القصير. منذ اللقطة الأولى يتمكن الحدث من المتلقي بقوة إيحائه ويقدم الفنانة باعتبارها عاشقة لوقائع جنائزية. تلك ذكرى لا يمكن أن تُنسى بغض النظر عن الأقنعة والأشباح التي تستعملها الفنانة في التغطية على ما ترغب في القيام به. لقد ذهبت إلى مقبرة لن تخرج منها الصورة أبدا. تلك صورة جمالية فاخرة بالنسبة إلى الفنانة وهي لا ترى مجتمعها الأصلي يقيم خارج إطار تلك الصورة.
ليس “وا ويلاه” سوى ترنيمة رثاء كويتية قديمة. استحضرتها الفنانة لتصنع منها خلفية لعملها الفني الذي يستند أصلا على الأصوات. لقد سمعت القادري وهي صغيرة الكثير من الأصوات الحزينة.
في ذلك الفيلم حاولت أن تستعيد تلك الأصوات. ما لم تكن تتوقعه أن تجد نفسها في مقبرة. “سأحدثكم عن جماليات الموت” يمكنها أن تقول ذلك غير أن حياتها الشخصية ستكون درسها العميق. لقد تعلمت الفتاة الكويتية في اليابان كيف تروّض الأمل. “وا ويلاه” فيلم حزين جدا. بأصواته وصوره وأفكاره غير أن الفنانة وجدت فيه فرصتها للانفصال عن حياتها السابقة. إنه بمثابة تلويحة وداع.