منى حاطوم سيدة الفكرة التي لا تخطئ هدفها

فنانة تمجّد النسيان من أجل وطن خالد.
الأحد 2021/06/27
فنانة بقضية

يتسع الفن لصراع الهويات ولتآخيها في الوقت نفسه. كأن يولد الفنان في مكان ويترعرع في مكان ثانٍ ويحتضنه مكان ثالث باعتباره فنانا. قلق الهوية قد يكون مصدرا للإلهام يتخطى مفهوم الهوية من خلال ارتباطه بالمكان. هوية متحررة من قيود الوصف المسبق.

ربما تكون منى حاطوم نموذجا للفنانة التي اخترقت مفهوم الهوية المقيّد بعناصر جاهزة بالرغم من كونها ظلت حريصة على أن تتسلل إلى أعمالها نصوص مقتضبة ومتوترة من سيرتها الأولى، وهي سيرة اللجوء الفلسطيني الذي لم تنظر إليه بمقاييس أسطورية بل تعاملت معه باعتباره حدثا كان بمثابة الصدمة التي وضعت شعبا في سياق مختلف. لقد حملت معها اضطراب ذلك التكوين لتضعه على ميزان ما بعد الحداثة مزيجا من السخرية والتهويل والفكاهة السوداء واللغة السرّية التي تحيط أعمالها بغموض آسر.

لقد تماست مع الزمن في عدد من أعمالها من غير أن تصفه. رأته في ما يحدثه من حذف وإضافة. يحذف ما يضيفه ويضيف ليعوض ما يحذفه. ذلك هو زمنها الفلسطيني الذي بدأته مع تكبير جمالي لأدوات المطبخ في حيلة مكشوفة للنظر إلى الأشياء بطريقة تجمع بين السخرية والتهويل، كما في الحكايات الخرافية.

فنانة بقضية تصنع هوية     

حاطوم حطمت صنم هويتها المحلية بالرغم من حاجتها إلى أن تروي حكاية ما لأحد ما. صارت فنانة عالمية هي اسم لا يمكن تخطيه في عالم الفنون المعاصرة.

يعتقد البعض أن إدراج اسمها في لائحة الفنانين البريطانيين هو السبب الذي يقف وراء اهتمام المتاحف واللقاءات الفنية العالمية بأعمالها. ذلك ليس صحيحا تماما. تملك حاطوم أسلوبا يتجاوز الشخصي إلى العام من خلاله تتحول القضايا الشخصية إلى قضايا ذات تأثير شامل.

حاطوم تعتبر نموذجا للفنانة التي اخترقت مفهوم الهوية المقيد بعناصر جاهزة، بالرغم من كونها ظلت حريصة على أن تتسلل إلى أعمالها نصوص مقتضبة ومتوترة من سيرتها الأولى، وهي سيرة اللجوء الفلسطيني

ليس يسيرا أن يخترق فنان عربي حاجز التصنيف العالمي ليصل إلى قوائم الفنانين المعاصرين الأكثر شهرة. هناك خبرة السوق ليس في إمكان أي كان أن يحوز عليها كما أن المتاحف لها مقاييسها التي تقع خارج ما هو متداول من مفاهيم الفن.

حاطوم فلسطينية الأصل، غير أنها بريطانية الهوية. تلك نقطة لصالحها. في الكثير من الموسوعات الفنية تُقدم حاطوم باعتبارها فنانة بريطانية. على مستوى الفنون المعاصرة لم تعد الهوية ذات معنى. غير أن حاطوم كانت تصرّ على هويتها الفلسطينية في معالجاتها ذات الطابع المباشر. فنانة بقضية. ذلك أمر سيميزها عن سواها من فناني الفن المعاصر. قضية هي في الوقت نفسه هوية.

الفكرة قبل الصورة

Thumbnail

ولدت حاطوم في بيروت لأسرة فلسطينية لاجئة عام 1952. من خلال عمل والدها في السفارة البريطانية حصلت على جواز سفر يؤهلها الدخول إلى بريطانيا. عام 1975 سافرت إلى لندن للسياحة وإذا بالحرب الأهلية تبدأ في لبنان، فقررت البقاء ودرست الفن ثم درّسته في مدرسة بيام شو للفنون ومدرسة سليد للفنون الجميلة، ورشحت عام 1995 لنيل جائزة تيرنر.

في منتصف ثمانينات القرن الماضي أنجزت سلسلة من الأعمال الأدائية بتقنية “الفيديو” ركزت فيها على الجسد. أما في التسعينات فقد انتقلت أعمالها نحو التركيب والتجهيز وكان هدفها دفع المتلقي للشعور بالاشمئزاز والخوف والافتنان.

في كتابه “خيط سير الرحلة” يركز الناقد غاي بريت على شعور حاطوم المزدوج إزاء هويتها الثقافية وكيف انعكس تأثيره على فنها الذي يتضمن من وجهة نظر بريت علاقة جدلية بين المكان وتلك الازدواجية التي هي جزء من التاريخ الشخصي. أما بالنسبة إلى الفنانة فإنها لا تولي الشعور بالإقصاء أهمية كبيرة وفي الوقت نفسه فإنها لا تريد الانفصال عن خلفيتها الثقافية. بهذا المعنى فإن تعريفها باعتبارها بريطانية لا يتعارض مع كونها فلسطينية. تلك معادلة تمسك حاطوم بعناصرها بيسر.

أعمالها ذات المنحى الإنساني العام تنطوي على عالم استفهامي وجودي، غير أنه يمكن قراءتها في سياق التاريخ الشخصي الذي هو جزء من التاريخ الوطني الذي يؤكد من خلاله الفلسطينيون تمسكهم بثوابت قضيتهم

أعمالها ذات منحى إنساني عام تنطوي على عالم استفهامي وجودي غير أنه يمكن قراءتها في سياق التاريخ الشخصي الذي هو جزء من التاريخ الوطني الذي يؤكد من خلاله الفلسطينيون على تمسكهم بثوابت قضيتهم.

من خلال معادلتها الفكرية تضع حاطوم قضيتها تحت مجهر مختلف بالرغم من أن أعمالها في ذلك المجال لا تخلو من المباشرة، غير أنها مباشرة هي أشبه بالترجمة، فحاطوم تعرف أصلا أن أعمالها غير موجهة إلى متلقٍ عربي. لذلك فهي تستعمل مفردات يومية مباشرة كـ”الكوفية الفلسطينية” في محاولة منها لتقديم الفكرة إلى مواطن عالمي.

لطالما كنا بصدد أعمال حاطوم فإننا نتحدث عن فكرة وليس عن صورة. حاطوم من نوع الفنانين المعاصرين الذين يولون الفكرة جل اهتمامهم حتى من خلال تقنية فن الفيديو. وهي تقنية لا تتجسد إلا من خلال الصور. يمكن للكتابة أن تحل محل الصورة، أن تشكلها.

نلعب بالضوء والصوت سياسيا

Thumbnail

لا تخرج حاطوم عن السياق العام لفنون ما بعد الحداثة حين تركز على السياسة، أحداثا وأفكارا ومشاهد تعيدها إلى العناصر الأولى لوعيها الجمالي والتي تستمد قوتها من رؤية سريالية إلى العالم.

وإذا ما كانت تنفرد عن سواها من فناني ما بعد الحداثة بروح تغلب عليها الدعابة السريالية، فإنها هي الأخرى سعت لأن يكون عالمها مركبا من تأثيرات حسية مختلفة حيث يلعب الضوء والأصوات فيها أدوارا مهمة غير أن عينها تبقى مصوّبة على الخرائط التي تملك تأثيرا يمزج بين الخيال السياسي ومفردات التيه التي يعيشها المرء حين يقارن بين الحقيقة والواقع.

كل عمل من أعمالها في التركيب والتجهيز هو محطة في رحلة اكتشاف العالم والذات في الوقت نفسه. غير أنها في كل مراحل سيرتها لم تتخل عن فكرة أن العالم يعيش في خطر دائم. هناك الضوء الأحمر الذي يحيل الاضطراب النفسي إلى أصوله المادية. هناك خطر تنطوي عليه السياسة الدولية المعاصرة وهو خطر تعبّر عنه الخرائط التي تستعملها حاطوم لا كوسائل إيضاح بل كحياة صامتة تنطوي على الكثير من المصائد والألغام.

فهرس الخسارة

عام 1988 أنجزت حاطوم فيلم فيديو بعنوان “مقاييس المسافة” هو عبارة عن مجموعة صور لوالدتها وهي تستحم في منزل العائلة ببيروت. المادة الأساسية للفيلم ليست تلك الصور بل الرسائل التي أرسلتها الأم إلى ابنتها المقيمة في لندن. ستكون الابنة مضطرة إلى الترجمة. صوت حاطوم وهي تقوم بالترجمة كان عنصر بناء أساسي في الفيلم.

مقابل العلاقة الحميمة التي يكشف عنها الصوت المكتوب كما الصوت المترجم فإن هناك حقائق كثيرة تمر بسرية واقتضاب باعتبارها جزءا من حياة تُعاش كما لو أنها حياة طبيعية. كان هناك المنفى بصورته الأكثر قسوة حيث التهجير القسري وسرقة الأرض والانفصال عن الماضي والحرب التي تقع باعتبارها فهرس أحوال وأخيرا الخسارة. مَن خسر وما خُسر؟

البعض يعتقد أن إدراج اسم حاطوم في لائحة الفنانين البريطانيين هو السبب الذي يقف وراء اهتمام المتاحف العالمية بأعمالها. إلا أنها تمتلك أسلوبا يتجاوز الشخصي إلى العام من خلاله تتحول القضايا الشخصية إلى قضايا ذات تأثير شامل

في مجملها تنطوي أعمال حاطوم على شعور عظيم بخسارة الزمن. والزمن بالنسبة إليها يتضمن كل شيء. ذكرياتها وعائلتها والمدن التي أحبّتها والناس الذين عاشت معهم والأسفار ومحطات حياتها. لديها عمل يشبه الاسطرلاب الذي يمحو ما ينشئه في كل دورة من دوراته.

فن حاطوم يمجد النسيان. لذلك فإنه لا يتذكر لكي يثأر. إنه يتذكر من أجل أن تكون الحياة في مستوى حقائقها. أعود إلى الفكرة التي تؤكد أن فنها لا يقيم ركائزه على الصورة بل إنه يمضي بالفكرة من يسارها إلى يمينها وبالعكس. تهبنا منى حاطوم عالما على شيء من الغرابة، غير أنه يظل عالمنا الذي نرغب في العيش فيه.

9