منتدى أصيلة يحتفي بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان قائدا برؤية متبصرة

عاد موسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته الثانية والأربعين إلى إحدى الشخصيات “الأصيلة” والمؤثرة في العالم العربي قصد تكريمها والوقوف على أهم ميزاتها وتأثيراتها الممتدة إلى اليوم على الساحة المحلية والعربية والدولية، ألا وهو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الزعيم العربي الاستثنائي الذي نجح في تأسيس الإمارات العربية المتحدة وجمع القبائل الإماراتية على اختلافها في ظرفية زمنية حرجة، ومهّد من خلال استراتيجيته للتأسيس لنجاحات كبرى ترسمها هذه الدولة عبر حكامها الحاليين الملتزمين بنهج الشيخ زايد الذي يقوم على الكثير من الحكمة وبعد النظر.
أصيلة (المغرب) - الحكمة وبعد النظر الاستراتيجي إلى جانب الحس الإنساني ثلاثة محددات أساسية شكلت الشخصية القيادية للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وهو ما أهّله ليكون مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن هذا المنطلق احتفى مؤسسو موسم أصيلة الثقافي في دورته الثانية والأربعين بهذا القائد الذي أجمع كل المتدخلين في الندوة التي حملت عنوان “الشيخ زايد.. رؤية القائد المتبصر”، على أن هذا الرجل استطاع أن يحوّل بلدا غير مؤهل على المستوى الاقتصادي والتنموي إلى دولة متحدة سياسيا ومركزا متقدما على المستوى الاقتصادي إقليميا ودوليا.
وفي تدخله أكد محمد بن عيسى، رئيس منتدى أصيلة الثقافي، أن التغيرات والمستجدات في المنطقة العربية ضاعفت الحاجة أكثر إلى استعادة سيرة الشيخ زايد، للتأمل في ملامحها المتفردة والتمعن في أسلوب بناء دولته وكيف قادها، في ظرف سياسي حرج، ميّزه زخم إقليمي ودولي، لم يكن أقل توترا وغليانا من الذي نعيش تبعاته في الوقت الراهن.
قائد فذ
تميز تعاطي الشيخ زايد مع العديد من العواصف والأزمات بحكمة السليقة وصفاء الذهن اللذين جبل عليهما، مزايا جعلته يزن القضايا بميزان الحق والإنصاف دون مبالغة أو تهويل، ولا تبخيس لقيمتها بل وخطورتها.
وله نظرة تأسست على التأليف بين الأصيل والمعاصر في تاريخ الأمة العربية، تآلف قصد منه التعبير الحذر عن الإعجاب بأهم ما في الغرب، أي فكره ومنجزاته الصناعية، بغاية الاستفادة من جوهر حضارته، دون التفريط في خصوصيات مقومات الأمة العربية والحضارة الإسلامية.
كان العمل الخيري محور عمل دولة الإمارات في إغاثة وعون المناطق المعوزة والتي نفذتها صناديق التمويل ووكالات ومؤسسات النشاط الخيري، وهي قبل أن تكون نهج سياسة خارجية للدولة كانت تعبيرا عن قيم التسامح والتضامن والحس الإنساني الذي تمتع به الشيخ زايد، ذلك التوازن الدقيق هو الذي جعل الباحثين والمحللين السياسيين يطلقون على الشيخ زايد صفة القائد الفذ كما يقول بن عيسى، موضحا أنه لطالما نشر الحكمة وبشر بفضائلها، واتبعها في كل شأن كبر أو صغر، يتعلق بأمته ومصلحتها الآنية والمستقبلة.
وتأسيا بنظرته البعيدة لشؤون الأمة فقد تبعه وصدّقه أبناؤه وأشقاؤه مقتنعين بأهمية الصرح السياسي وبناء الدولة الذي عرضه عليهم، ليناقشوه بصراحة وشفافية لينتهوا بعد استفتاء ضمائرهم إلى أن جمعهم في كيان سياسي موحد، هو الوسيلة الفضلى للمّ الشمل وتكامل الجهود والإمكانيات لصهر الطاقات المتفرقة في بوتقة واحدة.
وجسّد الشيخ زايد القيادة الحقيقية التي تمثلها خصوصية أنظمتنا، كما قال علي راشد النعيمي، رئيس لجنة الدفاع والداخلية والشؤون الخارجية بدولة الإمارات، في مداخلته، إذ كان قائداً وإنساناً، يهتم بحاجة كل إنسان، كل مَن يقيم في بلده، وهذا جزء من ممارسة نعيشها في الإمارات وهي مستمرّة حتى الآن.
وكنتيجة لفلسفته في القيادة، يؤكد النعيمي، أنه لما جاءت جائحة كورونا، حينما كان العالم يستكشف الخطر القادم، قال الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية في مجلس عام “لا تشيلون همّ، نحن مسؤولون عنكم وعن أبنائكم وعن أحفادكم”، موضحا النعيمي، أن هنا تتجسد طبيعة النظام، وهذا الحس المسؤول جاء من ممارسة حقيقية انتهجها الشيخ زايد لتأصيل قواعد الحكم في الإمارات.
القوة الناعمة والاستشراف
إن نجاح المشروع السياسي والتنموي والاقتصادي للشيخ زايد كان نتيجة شخصيته التي استثمرها كقوة ناعمة، والتي طبعت مسار قيادات وزعامات استثنائية ظهرت في فترات تاريخية مفصلية غيرت مسار أممها وشعوبها وحققت لها طموحاتها في التقدم والازدهار.
ويؤكد بن عيسى أن الشيخ زايد اتسم أيضا بالتريث وبعد النظر وحصافة الرأي وعدم الحرج من النقد الذاتي والقيام بالتصحيح والمراجعة إذا لزم الأمر، مستحضرا كل العناصر والتفاصيل الصغيرة قبل الحسم. وهو الذي حمى دولة الإمارات العربية المتحدة وصانها من الأخطار والأطماع التي حاقت بها في طور التأسيس، كما ذلل توجهه صعوبات الطريق وعثراته، كون الدولة الجديدة واقعة جغرافيا في منطقة استراتيجية شديدة الغليان ومحط أطماع في الماضي والحاضر.
واستطاعت دولة الإمارات كما كان ينشد الشيخ زايد أن تبني مجتمع الرفاهية والازدهار بما يضاهي أكبر الدول وتتبوأ مركزا رياديا على الساحتين الإقليمية والدولية، وقال زكي أنور نسيبة، المستشار الثقافي لرئيس دولة الإمارات، إن الإمارات اليوم حققت هذه الإنجازات في بيئة مضطربة لم تمنعها من النجاح في بناء أكثر الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية تطورا، مؤكدا أن رؤية القائد المؤسس رفضت القبول بالواقع المرير، فعمل على صناعة تاريخ جديد يؤمّن لشعبه سبل الحياة الكريمة ويكرّس لدولة ناشئة رغم بدايتها الصعبة موقعا مميزا على الساحتين الإقليمية والعالمية.
فالنظرة الاستراتيجية التي تميّز بها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، القائد المؤسس لدولة الإمارات، كان لها الأثر الكبير في كل إنجاز إماراتي تحقّق اليوم، حسبما أكد الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي.
نجاح المشروع السياسي والتنموي للشيخ زايد نتيجة شخصيته التي استثمرها كقوة ناعمة، وطبعت مسار قيادات استثنائية
وأضاف في كلمته التي ألقتها نيابة عنه ريم بنت إبراهيم الهاشمي، وزيرة دولة لشؤون التعاون الدولي بالإمارات، أن هذه النظرة الاستراتيجية حرصت على الأبعاد التنموية لإحداث تغييرات جذرية مع تحقيق الحوكمة والتنمية المستدامة، مشيرا إلى أن استراتيجيته مكنت أبناء الإمارات من الوصول إلى الفضاء.
في نفس الاتجاه، ذهب زكي نسيبة إلى أن الشيخ زايد تمتع بشخصية قيادية قلّ نظيرها وأخذ على عاتقه بناء دولة حديثة على مستوى العالم لما تميّز به من بعد نظرة استشرفت المستقبل ويقينا أن التعليم سيقود المجتمع لمصاف الدول المتقدمة، فقطع عهدا أن يكون التعليم عتبة من الثقافة والفكر، فوجّه السياسات كافة لتوفير أجواء العلم وبناء المدارس والمستشفيات، لتصبح بلده النموذج الأمثل من حيث التطور والنمو في شتى المجالات، وتوجهها نحو بناء اقتصاد معرفي يعتمد على التكنولوجيا والعلم وذلك بالتركيز على تنمية مواردها الشرية والاهتمام بالصحة وتعزيز الهوية الوطنية.
على مستوى آخر أكد الدكتور علي النعيمي إيمان الشيخ زايد بالبقعة الخضراء وبأنّ الحياة ليست حياة الإنسان فقط وإنما هي حياة الشجر والحيوان، وكان في نهجه تحدٍّ للخبراء في زراعة الصحراء، فحين تأسست دولة الإمارات كانت أنواع أشجار النخيل ما يقارب 30 إلى 40 ألفاً واليوم هناك أكثر من ستين مليون نخلة، وتحولت الصحراء إلى واحات خضراء بإصرار الشيخ زايد وعزيمته، وإصراره على إمكان تحقيق المستحيل وتحويل الصحراء القاحلة إلى بستان أخضر.
إنصاف التاريخ
إذا كانت الشهادات كلها أجمعت على سماحة الشيخ زايد واعتداله ودوره في النهوض ببلده، فإن العودة إلى الإرهاصات الأولى ستكون إنصافا لما تحمّله هذا الرجل في سبيل تحقيق هدفه في توحيد الإمارات في كيان واحد، وتأريخ اللحظة التي سبقت الاعلان عن الدولة بالوثائق وشهادات الحاضرين، وهنا يقول الدكتور هيثم الزبيدي، ناشر ورئيس تحرير صحيفة “العرب” اللندنية، إن النظر إلى بذور نشأة الاتحاد في حينها، من الاستماع إلى شهادة معاصريها، ومنهم ولعل من أهمهم الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، ومن خلال الاطلاع على وثائق تلك المرحلة، ينصف الشيخ زايد ورؤاه في مهدها، وليس من النجاح الذي حققته.
ويورد الزبيدي إن لعل تركيز الشيخ محمد القاسمي على تلك المرحلة “التي تلت انسحاب بريطانيا من شرق السويس وترك المنطقة لمصيرها دون حد أدنى من المسؤولية، بمثابة الصدمة حيث افترقت الفئات وتنابزت بالألقاب، وتداعت علينا الأمم. وإذا بنجم يلوح في الأفق. كان ذلك زايد بن سلطان آل نهيان”، أي أن طوق النجاة تمثل في هذه الشخصية لما تحمله من كاريزما وصدق وحسم.
وعندما تكون الوثيقة حاضرة تكون الشهادة التاريخية مضبوطة لا تجريح فيها، وفي هذا الصدد يؤكد هيثم الزبيدي، في مداخلته في الندوة، أنه يمكن النظر إلى صبر الشيخ زايد وحكمته من ناحيتين، الأولى تكتيكية، حيث أن هناك الكثير من التفاصيل يجب أخذها في الاعتبار من دون الغرق فيها، والتي تتضمنها وثائق الخليج العربي 1968 – 1971 لرياض نجيب الريس، والناحية الثانية استراتيجية وهي أن الاتحاد يجب أن يتم ولا يحيد النظر عن هذا الهدف.
والاتحاد حسب الوثائق بدأ رسميا بالبيان المشترك بين الشيخ زايد والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي في الـ18 من فبراير 1968، وهو ثمرة لتوجه الشيخ زايد نحو الوحدة مع شريك مؤمن، يقول الزبيدي، مشيرا إلى أنه بين الـ18 من فبراير 1968 وإعلان دولة الاتحاد في الـ2 من ديسمبر 1971 جرت المفاوضات بين الإمارات التي تشكل دولة الإمارات الحالية بالإضافة إلى البحرين وقطر، حيث أنه قبل الإمارات المتحدة كان الاسم هو الإمارات المتصالحة، ومن هنا نفهم واقع المنطقة.
ويوضح هيثم الزبيدي أن استثمار أبوظبي المعنوي والمادي في الإمارات المتصالحة بدأ مبكرا، من قبل أن تظهر بريطانيا نواياها بالانسحاب، فالإيمان بالاتحاد كان حاضرا في فكر الشيخ زايد فهو كان يدرك أن نافذة تاريخية قد فتحت تتظافر فيها عوامل مختلفة كثير منها قاس وصعب، ويعتقد الكاتب، أنه ربما ورث الشيخ زايد عن جده زايد الأول فكرة الاتحاد. لكن الفرق أن ما عدّ أزمة استراتيجية كبرى في المنطقة رأى الشيخ زايد أنه الفرصة المنتظرة لتحقيق الاتحاد.
وبين الفرصة والأزمة هناك عقلية ورؤية، فالفراغ الذي سينشأ من الانسحاب البريطاني، ستستغله لا محالة دول كبرى أو متوسطة وتعتبره فرصة، خصوصا وأن المنطقة في قلب صراعات إقليمية ودولية، وأن الدول العربية المهمة تصنف المنطقة على أساس أيديولوجي ولا تملك ما يكفي من الفهم لعمق التماسك القبلي في هذا الجزء من الخليج.
وهنا يؤكد هيثم الزبيدي، الذي كانت زاوية تناوله لشخصية الشيخ زايد مختلفة تماما، حيث أنه لسياسي بالمفهوم الكلاسيكي، تبدو كل العوامل مقلقة، أما لزعيم ذي رؤية، فنحن أمام الفرصة، وكان صبره استثنائيا في مفاوضات تحقيق الاتحاد دام لثلاث سنوات عندما كان البعض اختار التقارب. الآخر، ظل يناور ويجادل ويقدّم الرأي ثم نقيضه.
هنا تبرز الشخصية القيادية للشيخ زايد عندما ترك الجميع ليقدموا ما يرونه عناصر أساسية لقيام الاتحاد، وفي الوقت الذي أدرك أن بعض الأطراف تناور للتسويف وشراء الوقت لغايات ذاتية أو بالنيابة عن دول إقليمية مؤثرة، كان الشيخ زايد حاسما. هذا الاتحاد أمامكم. سنقيمه. نترك لكم خيار الانضمام في مرحلة لاحقة. ولكننا لن نسمح بخيار إجهاض المشروع، ويؤكد هيثم الزبيدي في مداخلته، أن هذا ما حدث وقام الاتحاد بهذه الإرادة، وها هو قائم ويحتفل بيوبيله الذهبي بعد مرور خمسين عاما على تأسيسه.
وفي هذا الإطار يقول عبدالله ولد أباه، الأكاديمي والمحلل السياسي، في ورقته إن وزير خارجية موريتانيا الأسبق المرحوم حمدي ولد مكناس زار الشيخ زايد عند قيام الدولة الموحدة عام 1971، وكانت أبوظبي قرية صغيرة تحبو بين رمال الصحراء وشاطئ الخليج ولم يكن فيها ما يغري بالزيارة، بيد أنه خرج بلقائه الأول مع الشيخ زايد بإحساس قوي أن هذا البلد سيكون له شأن كبير بفضل قيادة هذا الرجل الاستثنائي.
وأضاف أن ولد مكناس ذكر أن الشيخ زايد تأسف له أشد الأسف على فشل مشاريع الاندماج العربي وكان قويّ الإيمان بوحدة العرب وضرورة تضامنهم واتحادهم، وأراد أن يبين للعالم أن وحدة الأمة ممكنة إن احترمت إرادة الشعوب وأظهرت المصلحة المشتركة دون إكراه أو ضغط.
ففكر الشيخ زايد تكوّن في فترة شهدت فيها الأمة صعوبات جمة، في وقت انتشرت فيه ثقافة التحرر من الاستعمار الغربي، وظهور الفكرة القومية، وفق مراد زوين، أستاذ جامعي مغربي، حيث أن التحولات المتسارعة كانت حافزا في الدفع نحو التقدم والخروج من الكيانات الصغيرة والإمارات المتناثرة إلى تأسيس الدولة والسعي نحو قيام الأمة، ومن هنا تحكّمت الروح الوحدوية وتجسدت في بناء الإمارات وربطها بالوحدة العربية المبنية على الحرية وتوفير مناخ لبناء مستقبل الأجيال.
وهنا يقول هيثم الزبيدي إنه لا نريد أن نجري أيّ مقارنة مع التجارب الوحدوية العربية، تجارب من الهيمنة والانفصال والحروب الأهلية، موضحا، انظروا إلى المساحات السياسية والنفسية والحكومية التي تركتها الإمارات التي تشكل الاتحاد لبعضها البعض، لتعرفوا طبيعة المرونة التي أسس لها الشيخ زايد وجعلت هذه الأمة تنهض لتصل إلى ما وصلت إليه.
واعتبر زكي أنور نسيبة، المستشار الثقافي لرئيس دولة الإمارات، إن الرؤية الحكيمة للشيخ زايد ونزعته الإنسانية تجاوزت حدود الدول، كما تفرد بين الزعامات السياسية وألهم الشعوب في بلده وخارجه من خلال رؤيته السياسية وتفانيه في التخفيف من معاناة البشرية وبوصلته الأخلاقية القوية، لتصبح دولة الإمارات واحدة من أكبر 30 اقتصادا في العالم.
وتابع نسيبة أن الشيخ زايد بنى هذه البلاد وكل مبادراته الإقليمية والدولية على موضوع التوافق والتراضي، ولم يكن يؤمن بالضغط والتخويف والتهديد، كان نهجه التواصل مع الآخر والحوار معه، وكان يقول مَن لم يقتنع اليوم بهذا سيقتنع بعد أسبوع أو شهر أو سنة، كل مَن اختلف معه في البدايات توافق معه في النهايات، فكان نهجه مساعدة الجميع واحتواء الجميع.