ملاحظات الرسام وموهبته

تكمن أهمية الإيطالي جورجيو موراندي (1890 ــ 1964) في تأكيده على ملاحظات الرسام وليس على موضوعه. فبالرغم من أنه رسم في بداية حياته المناظر الطبيعية متأثرا بالفرنسي بول سيزان، غير أنه سرعان ما عكف على رسم موضوعات الحياة الساكنة أو الصامتة “Still live” ولم يرسم سواها طيلة حياته.
سيُقال عنه رسام الموضوع الواحد. غير أن ذلك لم يقف بينه وبين أن يكون واحدا من أهم رسامي القرن الماضي. يقول “ما يهمني هو التعبير عمّا هو مرئي”. لذلك فإنه لم يرسم أشياء نفيسة، أشياء لا نراها إلاّ مرة واحدة.
لقد رسم أشياء متواضعة يمكن أن نجدها في أي مطبخ. أباريق وصحون وقنان وكؤوس وأوان. ليس هنا ما يدعو إلى الشعور بالثراء أو الندرة. رسم أشياءه بألوان خفيفة يطغى عليها الصمت وخطوط لم يهتم بإخفائها.
رسمها كما هي من غير إضافات. ولكن ما نراه بطريقة سطحية لم يكن هو الحقيقة. الموضوع الواحد لم يكن مملا. يمكنك أن ترى معرضا كبيرا لموراندي من غير أن تشعر بالملل بالرغم من أنه لم يخرج من المطبخ.
لقد أضفى الرسام على موضوعه المتكرّر شيئا من ملاحظاته التي لم تكن تتكرّر. في كل لوحة يظهر شيء جديد تمليه عين الرسام كما لو أنها لم تر الموضوع من قبل.
لقد تجلت عبقرية الرسام في تحدي موضوعه. إنه تحدي الموهبة التي تتجاوز الحرفة. هناك الآلاف من الرسامين سبقوا موراندي إلى موضوعاته، لكنهم ظلوا في حدود الحرفة التي يغلب عليها التزيين. وحده موراندي مَن استطاع أن يحوّل موضوعه العادي إلى موضوع خارق عن طريق ملاحظات الرسام التي هي أشبه باليوميات.
كان يرسم كما لو أنه يكتب يومياته. لقد كانت علاقته بعناصر الرسم تتطوّر أثناء العمل. عن طريق ذلك التطوّر صار أسلوبه يتطوّر من لوحة إلى أخرى، وإن كان ذلك التطوّر قد حدث بطريقة خفية. لقد أثبت موراندي بطريقة ملموسة أن الموضوع لا يصنع رساما ولا يمكنه في الوقت نفسه أن يقلل من قيمته.