مكتبات القدس: التاريخ يفوح من رائحة ما تبقى من المخطوطات

الكتب والمخطوطات حافظة التاريخ وحامية الذاكرة ومحركة الوعي، وبالتالي فإن استهدافها هو في الحقيقة استهداف للوعي وللذاكرة في محاولة للمحو، وهذا ما انتهجه الغزاة وقوى الاحتلال على مر التاريخ. وتتعرض المكتبات الفلسطينية لمحاولات محو وإلغاء ما زالت مستمرة في سعي واضح لاجتثاث الذاكرة الفلسطينية.
الدكتور ربحي مصطفى عليان، أستاذ علم المكتبات بالجامعة الأردنية، وأحد الخبراء البارزين في علم المكتبات بالعالم العربي، عرف مكتبات القدس، وعاين كنوزها من المخطوطات، وتتبع تاريخها، ووثق ما تتعرض له من عمليات نهب لكنوزها، وسطو على مقتنياتها من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وجمع كل ذلك في كتاب حمل عنوان “تطور المكتبات في مدينة القدس”، استحضر فيه تاريخ المكتبات المقدسية وحاضرها، وكيف بقيت حارسة للهوية الثقافية الفلسطينية.
استهداف المكتبات
كما يقول الدكتور ربحي مصطفى عليان في مقدمة كتابه، فقد اكتسبت مدينة القدس أهمية دينية وعلمية كبيرة، حيث تأسست على أرضها المقدسة والمباركة المساجد والجوامع والمدارس والزوايا ودور العلم التي ضمت العديد من المكتبات، كما قام الكثير من العلماء من البلاد العربية والإسلامية بشد الرحال إليها، حيث نزلوا بها للتعلم أو للتعليم، حاملين معهم المخطوطات والكتب التي أضافوها إلى محتويات مكتباتها المختلفة.
وقبل العصر الإسلامي كان في القدس العديد من مكتبات الأديرة والكنائس منها مكتبة سانت كاترين ومخطوطاتها التي نالت العناية التي تستحق. ولما كانت القدس مركزا هاما للعلوم الدينية، فقد تأسست بها المكتبات منذ خمسة عشر قرنا، وكانت المخطوطات تحفظ في المساجد أو المدارس أو القصور السلطانية أو الزوايا الصوفية أو في المكتبات الخاصة للعلماء الذين قد يورثونها أبناءهم لتصبح بعد ذلك مكتبات منسوبة إلى عائلات علمية.
ويتكون كتاب “تطور المكتبات في مدينة القدس” من تسعة فصول تتناول تاريخ مدينة القدس، والتطور التاريخي للمكتبات فيها، ومكتبات المساجد والكنائس والمدارس والزوايا، وكذلك المكتبات الخاصة والعامة والمكتبات المتخصصة، والمكتبات الأكاديمية.
ويستعرض الكتاب الانتهاكات الإسرائيلية للكتب والمكتبات في مدينة القدس، منذ عام 1948 حين تعرضت المكتبات للسطو والتخريب من قبل البريطانيين، مرورا بعام 1967، حين زاد الاحتلال من توسعه، فدخلت تحت سلطته الكثير من المكتبات والمساجد والمدارس. حيث أصيبت المكتبات بالاعتداء والنهب والإهمال من المحتل وهو الأمر الذي يتواصل حتى اليوم.
وبحسب فصول وصفحات الكتاب، كانت فلسطين في مختلف مراحل الحضارة العربية معبرا حضاريا بين دمشق في الشمال والحجاز في الجنوب، وبين بغداد في الشرق وبلاد الغرب في الغرب، وكانت مدينة القدس العاصمة الدينية والحضارية الكبيرة والمائدة المستديرة التي تلتقي فيها كل مظاهر الحضارة الصادرة عن هذه المراكز العربية الكبيرة، لذلك تجذرت العلاقة بين القدس والثقافة وتوطدت الصلات بينها وبين المخطوط العربي، فعرفت منذ القدم وجود المكتبات المختلفة.
ويتحدث الكتاب عن أهمية المكتبات في مختلف الحضارات، وما أعطته الحضارة العربية والإسلامية عبر عصورها المختلفة من اهتمام بالكتب والمكتبات، وهو الاهتمام الذي ساعد على انتشار خزائن الكتب في بغداد ودمشق والقاهرة وفارس وقرطبة والقدس، وغيرها من مراكز الحضارة العربية الإسلامية. ويبرز الكتاب كيف أسهمت المكتبات في توسيع نطاق هذه الحضارة ونقلها إلى العالم وإلى الأجيال المسلمة.
ويسرد لنا عليان في كتابه ما تعرضت له المكتبات والمخطوطات الفلسطينية من نهب وسلب واعتداء وتدمير على مدار عقود مضت، بداية من الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث أتلف الجيش البريطاني المخطوطات التي كانت في زاوية آل ضمرة في قرية مزارع النوباني بقضاء رام الله، مرورا بنكبة عام 1948، حيث وقع الاحتلال الإسرائيلي، ثم قيام الاحتلال بزيادة توسعه في سنة 1967، فدخلت تحت سلطته الكثير من المكتبات والمساجد والمدارس.
الكتاب يتناول تاريخ مدينة القدس والتطور التاريخي للمكتبات فيها، سواء العامة أو الخاصة أو الأكاديمية المتخصصة
وبحسب الكتاب تعرضت هذه المؤسسات للاعتداء والنهب من قبل المحتل، وهو نهب واعتداء وثقته الأخبار والشهادات وما سجلته الصور والأفلام، حيث لم تسلم مؤسسة صغيرة أو كبيرة من ذلك النهب والاعتداء الذي لم يترك مخطوطا أو وثيقة تاريخية إلا واستولى عليها أو أتلفها.
ويوضح الكتاب كيف حاول الإسرائيليون الاستيلاء على المكتبة الخالدية بالقدس -وهي من أهم مكتبات فلسطين- فهاجموا مبناها ودخلوها عنوة بقيادة حاخام الجيش الإسرائيلي المسمى غورين، ووضعوا فيها تلاميذ مدرسة تلمودية. ولكن عائلة الخالدي تصدت لهم فأزاحتهم عنها بحكم المحكمة نتيجة شهادة رجلين من شرفاء اليهود.
ويروي عليان الكثير من التفاصيل مما لقيته المخطوطات العربية من عنت ونهب واعتداء ومغالطات من قبل الإسرائيليين من جامعيين وباحثين ومؤرخين، والذين شاركوا الاحتلال في عمليات نهب المخطوطات العربية من كتب ووثائق، والذين لم يكتفوا بالاستيلاء على تلك المخطوطات والوثائق، بل راحوا يروجون الأكاذيب المغلوطة التي حاولوا من خلالها التلاعب بالتاريخ.
ويروي الباحث أيضا تفاصيل سلسلة مطولة من الاعتداءات التي بدأت مع استيلاء إسرائيل على معظم الأراضي الفلسطينية، حيث نتج عن ذلك سقوط المكتبات العامة والآلاف من الكتب والمخطوطات في يد المحتل. وآنذاك لم يتمكن الفلسطينيون إلا من إنقاذ عدد ضئيل من الكتب والمخطوطات التي نقلت إلى المدن الفلسطينية. فيما دمرت الكثير من المكتبات تدميرا كليا جراء الحرب وما حدث فيها من نسف وتخريب. وقد وثّق المؤلف قيام الاحتلال بسرقة الكثير من المكتبات ونهب ما فيها، بجانب مصادرة المقتنيات التراثية في المدينة المقدسة.
ونوه الكتاب إلى أنه منذ احتلال القدس عمل الإسرائيليون على سلب المخطوطات والوثائق المتعلقة بالمدينة سعيا لمحو الذاكرة العربية للمدينة المقدسة. وتعمد تخريب الكثير من المؤسسات العربية الإسلامية، وامتداد تلك الأعمال إلى مكتبات غزة والضفة الغربية وعكا ويافا وغيرها من المدن الفلسطينية.
محاصرة الكتب
يدلنا كتاب “تطور المكتبات في مدينة القدس” على أن أول سرقة لكنوز فلسطين من الكتب والمخطوطات والوثائق بدأت مع بداية الاحتلال، حيث طالت آلة النهب والتدمير الإسرائيلية للمكتبات عموم فلسطين بما في ذلك الضفة الغربية وغزة، والتطاول على مكتبات القدس الشرقية ومنها المكتبة الخالدية، حيث تعرضت المخطوطات والوثائق بشكل خاص لإحراق وتدمير ونهب واغتصاب، إضافة إلى منع الاحتلال لأي مساع فلسطينية لترميم ما بقي من مخطوطات ووثائق وكتب.
ويبين الكتاب أن الكثير مما بقي من مخطوطات في مكتبة المسجد الأقصى، وفي المكتبات الخاصة بالعائلات الفلسطينية، عانى من سوء التخزين وتهالك الأبنية ونقص الخبرات المؤهلة لترميمه وحمايته، كما أورد الكتاب قائمة بالمكتبات الخاصة التي استولى عليها الاحتلال من العائلات المقدسية.
وعدد مؤلف الكتاب الأساليب التي اتبعها الإسرائيليون في العبث والتدمير والنهب لمقتنيات المكتبات في القدس وفلسطين، ولفت إلى أن الجامعة العبرية كان لها النصيب الأوفر من نهب وسرقة التراث الفلسطيني من المخطوطات والوثائق والكتب، حيث نقلت إليها مكتبات كاملة، مثل مقتنيات مكتبة راغب الخالدي الخاصة، ومكتبة أسعد الشقيري، ومكتبة درويش مصطفى الدباغ، ومكتبة الشاعر إبراهيم مصطفى الدباغ، ومكتبة عجاج نويهض، ومكتبة محمد إسعاف النشاشيبي، ومكتبة خليل بيدس المقدسي، والمكتبة الخليلية التي أسسها في القدس الشيخ محمد بن الخليلي مفتي الشافعية، ومكتبة عبدالله مخلص المقدسي.
ويتحدث الكتاب عن عبق التاريخ الذي كان يفوح من رائحة المخطوطات التراثية على أرفف مكتبة المسجد الأقصى، والتي تناثرت بعيدا بعد أن استولى عليها الاحتلال بهدف الاستيلاء على التاريخ وتزويره. وذكر الكتاب جانبا من الأعمال التي يتعمد الاحتلال القيام بها في الآونة الأخيرة، استكمالا لنهجه في الاستيلاء على مقتنيات المكتبات والأشخاص من كتب ووثائق ومخطوطات تعد بمثابة سجلات تاريخية تؤرخ لتاريخ المدينة المقدسة وأحوال الناس فيها.
ولجأت قوات الاحتلال إلى التوسع في فرض سياسة التمييز والحظر والمنع والغلق على كل ما يخدم الثقافة الفلسطينية، مثل حظر استيراد وتوزيع العديد من الكتب ومنع تداولها في أسواق ومكتبات القدس، ولم يقتصر الحظر على الكتب السياسية والكتب الخاصة بفلسطين والقضية الفلسطينية، بل امتد ليشمل بعض كتب التاريخ والتراجم والأدب وخاصة الشعر، وفرض رقابة صارمة على طباعة ونشر الكتب العربية في القدس؛ ما أدى إلى انخفاض كبير وملموس في حركة التأليف والنشر في مدينة القدس.
وكذلك منعت المكتبات في القدس الشرقية من اقتناء وتداول ما تقتنيه المكتبات في القدس الغربية. وتم إغلاق العديد من المؤسسات الثقافية في القدس العربية. فقد قام الاحتلال بإغلاق جمعية الدراسات العربية لمدة 4 سنوات ومصادرة العديد من الكتب والوثائق، ما أدى إلى إلحاق أضرار بالغة بمكتبة وأرشيف الجمعية. كما تم إغلاق اتحاد الكتاب وغيره من المؤسسات الثقافية.
هذا إضافة إلى فرض الرقابة الصارمة على الصحف والدوريات الصادرة في القدس وإلزام جميع الصحف والمجلات بضرورة إرسال كافة موادها إلى الرقيب العسكري، وتطبيق سياسة تمييزية عند اقتناء الكتب حيث إن الكثير من الإصدارات التي يسمح باقتنائها للمكتبات الجامعية الإسرائيلية في القدس الغربية يمنع دخولها إلى مكتبات القدس العربية؛ وخاصة المنشورات التي تصدرها جمعية الدراسات الفلسطينية ومركز الأبحاث الفلسطيني.