مقتل سليماني والمهندس يبرز عمق الخلافات بين الخطوط الشيعية في العراق

بغداد - حتى وقت قريب، كان المتابعون للشأن العراقي يعتقدون أن الخطوط الشيعية الثلاثة المتوازية، المرجع الأعلى علي السيستاني ورجل الدين الشعبوي مقتدى الصدر وأتباع الخط الولائي، نسبة إلى الولي الفقيه علي خامنئي في إيران، لن تلتقي أو تتحد إلا في ظل متغير كبير، بدا أنه تحقق فعلا عبر مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس.
وافترض كثيرون أن حدثا مثل هذا سيكون كفيلا بتصفير جميع الخلافات العميقة بين الخطوط الشيعية الرئيسية في العراق، لكن الصورة تبدو خادعة للوهلة الأولى. فرغم ما بدا أنه تطابق في مواقف الخطوط الثلاثة من عملية الاغتيال التي نفذها الأميركيون في مطار بغداد وتسببت في قتل مهندس مشروع التوسع الإيراني في المنطقة ومساعده الأبرز، إلا أن النفوس كانت تضمر شيئا آخر.
كانت استجابة الخطوط الثلاثة للنتائج التي ترتبت على غارة مطار بغداد سريعة، لكنها عكست في النهاية ثلاثة مواقف مختلفة يجسد كل منها مخاوف وطموحا مميزين، فبينما دعا السيستاني إلى ضبط النفس، وهي إشارة محبطة للإيرانيين وحلفائهم العراقيين، أغفل الصدر التعزية بالمهندس وخص سليماني بالكلام، بينما استغل قيس الخزعلي، أبرز ممثلي الخط الولائي المقلدين لخامنئي، حالة غياب القيادة، وقدم نفسه قائدا لـ”مشروع المقاومة”، إذ دعا “المؤمنين المجاهدين” في كل مكان إلى انتظار أوامره.
بالنسبة إلى السيستاني، فإن دعوته إلى ضبط النفس موجهة إلى منافسه على تزعم شيعة العالم، المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي.
ويعتقد السيستاني أن خامنئي لن يتورع عن إشعال حرب بالوكالة على أرض العراق، ما دام الضحايا ليسوا إيرانيين، حتى إن لزم الأمر التضحية بشيعة بلد كامل، بينما يعتقد خامنئي أن السيستاني ليس جديرا بموقعه، لأنه يعارض نموذج ولاية الفقيه الذي تقوم عليه الجمهورية الإسلامية في إيران.
والفارق في هذا الصراع أن خامنئي يملك أدوات مؤثرة، مثل مقلديه في العراق، وفي مقدمتهم قيس الخزعلي، الذي يتزعم حركة عصائب أهل الحق التي حازت على 15 مقعدا في البرلمان العراقي خلال اقتراع عام أجري في 2018، بينما لا يملك السيستاني سوى أتباع مسالمين، وإن كان تعدادهم بالملايين في العراق وخارجه.
من جهة أخرى، ينظر السيستاني إلى الصدر بوصفه الخطر المحلي الكامن في مدينة المراجع بالنجف، حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب، الأب الروحي للشيعة الاثني عشرية في العراق والعالم.

ويقول أتباع السيستاني إن الفكرة الشعوبية التي نشأ عليها العمود الفقري للتيار المؤيد للصدر، تضرب النموذج الشيعي المتحفظ الذي تمثله المرجعيات الشيعية في العراق منذ عقود. ولا يتردد هؤلاء في التعبير عن مخاوفهم من أن تقلبات الصدر لا تختلف كثيرا عن مغامرات خامنئي، لذلك يبررون حذرهم في التعاطي معه، بل وتشجيعه على العمل السياسي.
ورغم أن الصدر هو أحد أكثر الشخصيات الدينية في النجف قربا من السيستاني ونجله الأكبر محمد رضا، إلا أنه يبقى مصدر قلق شديد لمرجعية النجف المحافظة، على حد وصف خبراء في شؤون الجماعات الشيعية.
بدوره، يفرق الصدر بين خامنئي في إيران وممثله في العراق قيس الخزعلي، فبينما ينظر إلى الأول باحترام مشوب بالخوف، يتعامل مع الثاني بوصفه شاذا عن خطه.
ومن ينظر إلى الخزعلي الآن، ويشاهد الهالة الكبيرة التي تحيط به، لا يصدق أنه كان مجرد قاتل محترف يعمل بإمرة مقتدى الصدر، خلال مرحلة العنف الطائفي التي أعقبت سقوط نظام صدام في العراق.
ولا يستطيع الصدر أن يغفر للخزعلي أنه تسبب في انشقاق جيش المهدي الذي تأسس تحت لافتة طرد المحتل الأميركي ثم صار أداة لتصفية العرب السنة خلال الحرب الطائفية، مستصحبا معه ثلة من أبرز المقاتلين، ليسكنوا تحت جناح خامنئي، مؤسسا النواة الأولى لما بات يعرف لاحقا بـ”فصائل المقاومة الإسلامية”، وهي عبارة عن مجموعات شيعية عراقية مسلحة، تخضع لإيران، ويقودها سليماني بشكل مباشر أو عبر وسطاء، كأبومهدي المهندس.
كل هذه التقاطعات كانت حاضرة خلال اللحظة التي عبرت فيها القوى الشيعية الثلاث الأهم في العراق، عن موقفها من مقتل سليماني والمهندس، ما يبدد كل فرص التلاقي فيما بينها.
وإذا كان واقع الانقسام الشيعي ملائما للأميركيين فإنه يكاد يكون مؤشرا واضحا على إمكانية اندلاع اقتتال شيعي شيعي في أي لحظة.
ويرى مراقبون أن اتساع نطاق سياسة الاغتيالات الأميركية لقادة ميليشيات شيعية عراقية موالية لإيران، قد يمهد الطريق أمام مجموعات تملك السلاح في العراق لمحاولة الاستيلاء على السلطة، بحجة مقاومة مشروع الولايات المتحدة.
ويشمل هذا النطاق كلا من الخزعلي الذي سيراهن على الدعم الإيراني وحشد يقلد قادته المرشد الأعلى علي خامنئي، والصدر الذي يعتمد على التأييد الشعبي الداخلي.
ولكنّ حربا من هذا النوع قد تنتج منتصرين لم يشاركوا فيها، وهم في هذه الحالة الأكراد والسنة، الذين سيجدون الوقت الكافي لإعلان مشاريعهم الخاصة في العراق، وربما الانفصال عنه.