مقتدى الصدر.. تنقيح الهوية بـ"الوطنية الشيعية"

تبني مقتدى الصدر للتيار الوطني الشيعي لم يكن وليد اللحظة، بل جاء امتدادا لنهج أوجدته النجف لنفسها عقب تغيير النظام في 2003.
الأربعاء 2024/04/17
مساع لتشكيل هوية وطنية صرفة

أكثر من عقدين على الغزو الأميركي للعراق الذي أطاح بدكتاتورية حزب البعث، ولا تزال الجماعات السياسية الشيعية تتناوب على توزيع معادلتها فوق الوطنية وتحت نفوذ فصائلها المسلحة، ولجانها الاقتصادية، ورقابة من الجارة إيران التي تستغل “صمت النجف” للتأثير على القرار الشيعي الداخلي من دون أن تقف عند احترام الحياد الإقليمي أو سيادة العراقيين على أنفسهم.

هذه الجماعات خلقت طيلة وجودها في المساحة السياسية أسلوبا خاصا تتعاطى من خلاله مع النظام والحكم في العراق عبر توطين نفوذها في الدولة والنمو في مؤسساتها بطرق غير وطنية، وظلت طيلة الفترة الماضية متنقلة بين ولاءات خارجية متلبسة بهوية “شيعية” خالية من أي ولاء للشيعية العراقية.

كل ذلك يحدث بشكل علني وبلغت مراحل الصراحة فيه أن تعلن منظمة مثل “بدر” التي تستحوذ على مواقع وزارية ونيابية تحت مظلة النظام العراقي عن ثوابتها بتاريخ الرابع والعشرين من يناير بالقول “إن الموقف تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ينطلق من وحدة العقيدة والولاية، والارتباط المصيري”، متابعة ذلك بالتنصل من بعض من أسمتهم بـ”البدريين العاملين في مؤسسات الدولة”، وأشارت بتلميحها هذا إلى معارضتها إدانة القصف الصاروخي الإيراني على أربيل من قبل قاسم الأعرجي مستشار الأمن الوطني والعضو البارز فيها سابقا! وبمثل هذا تتوسع إيران كدولة عنيدة بمصالحها القومية في العراق حيث تقابلها أذرع سياسية تعيش حالة العجز عن اكتشاف دولتها!

بتنقيب بسيط ينكشف للشيعي في الداخل أن إرادة قوى السلطة لا ترفض تأثير كل من الولايات المتحدة وإيران على قراراتها الوطنية دفعة واحدة، فهي ممانعة للوجود الأميركي لكنها تصرح بالتبعية لأسباب هذا الوجود وهي إيران وأذرعها!

الخطاب السياسي الشيعي لأغلب الأحزاب والحركات الإسلامية ولد دون أن يحمل أي خصوصية عراقية بالرغم من قدرته على تحديد توجهاته

إن الخطاب السياسي الشيعي لأغلب الأحزاب والحركات الإسلامية ولد دون أن يحمل أي خصوصية عراقية بالرغم من قدرته على تحديد توجهاته، و2003 بوصفه أهم فرصة لتعزيز الهوية الجديدة، كان بالإمكان أن يشكل منعطفا تاريخيا لصالح حكم أغلبية شيعية ينفرد بتصحيح قناعة الكثيرين ممن كانوا يخشون أن يكون النموذج الإيراني المعزول جارا ملاصقا لحدودهم.

وبموازاة اختفاء ملامح الخطاب الوطني للأحزاب الشيعية اكتشفت النجف، كونها مركزا دينيا للشيعة في المنطقة والعالم، مخاطر التبعية السياسية هذه في أوقات مبكرة بعد التغيير، واستمرت بالنصح والإرشاد ثم الاعتراض والاستنكار إلى أن بلغ احتجاجها مرحلة اللجوء إلى الصمت وإغلاق الباب نتيجة إحباطها من عدم وجود أذن صاغية ممن يتحكم بالبلاد.

ففي مقابلة مع مجلة بولندا الأسبوعية في أغسطس من عام 2003، أكدت المرجعية مخاوفها الشديدة من “خطر محو ثقافة البلد الدينية والوطنية”، ولعل أبرز من لخص ملامح مشروع السيستاني في تحصين وحماية “الوطنية الشيعية” بشكل توضيحي هو حامد الخفاف مدير مكتبها في لبنان، ونشره موقع “شفقنا” بتاريخ الثاني عشر من سبتمبر عام 2019 جاء فيه “إنّ المرجعية العليا لا تتدخل في تفاصيل العمل السياسي بل تترك المجال واسعا للقوى السياسية للقيام بذلك، وإنما تتدخل في القضايا المصيرية التي تعجز القوى السياسية عن التعاطي معها أو تقديم حلول مركزية لها، وإنها تؤكد على احترام مؤسسات الدولة المنبثقة من خيارات الشعب التي لا بديل عنها بتاتا لقيام وطن حر ومستقل وسيد، وهذا يسري على كافة القطاعات العسكرية والأمنية والسياسية والإدارية والاجتماعية وغيرها”.

وباعتباره الزعيم الأهم في معادلة الشارع والعملية السياسية وبما يمتلكه من ولاء كبير ومطيع وملتزم، لم يكن تبني السيد مقتدى الصدر للتيار الوطني الشيعي وليد اللحظة، بل جاء امتدادا لنهج أوجدته النجف لنفسها عقب تغيير النظام السابق في العراق عام 2003.

إن تمسك الصدر بمطالب إصلاح العملية السياسية ومحاربة الفساد منذ العام 2011، أجبر مسار العملية السياسية على احترام إرادته في كل خطوة لتشكيل الحكومة أو إصدار القرارات، أما أهم متغير في مرحلته فهو ما انعكس بانسحابه من العملية السياسية عام 2021 نتيجة اقتحامه لمعادلة التوافقية واستبدالها بالأغلبية الوطنية وسرعان ما تصاعدت ضدها التوترات بشكل حاد داخل المنطقة الخضراء المحصنة لتنتهي بالتضحية بأكبر المقاعد النيابية التي تجاوزت الـ70 عبر الانسحاب.

تزامن مع اعتزال التيار الصدري للفعل السياسي ظهور ما سمي “أصحاب القضية” الذين ادعوا أن السيد مقتدى الصدر هو "المهدي المنتظر"

وتزايد حراك زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر خلال سنوات اعتزاله السياسي، خصوصا مع تكثيف بياناته، سواء ذات الطابع السياسي أو الاجتماعي، وعلى الرغم من الطابع العقائدي الذي غلبت عليه مواقفه، فإنه لم يتخل عن تمرير تلميحات سياسية، سواء لجمهوره أو خصومه، وتحديدا الفصائل والأحزاب التابعة لإيران، من خلال استخدامه مرة عبارات “التبعية” و”الأيادي الخارجية”، و”المهادنين”، و”الفاسدين” وهي مفردات لطالما يلجأ الصدر إليها في إشارة إلى الجماعات الموالية للخارج.

وتزامن مع اعتزال التيار الصدري للفعل السياسي ظهور ما سمي “أصحاب القضية” الذين ادعوا أن السيد مقتدى الصدر هو “المهدي المنتظر”، الأمر الذي واجهه زعيم التيار بالبراءة الشديدة، وكان يراد بذلك أن يُستدرج من قبل خصومه إلى “حرب عقائدية”، وهو سرعان ما استدعى الصدر إلى الظهور في موقف مرفق بصور جديدة داخل مرقد والده، يقول فيه “الحرب السياسية تحولت إلى حرب عقائدية فهذا ديدن الفاسدين والمنشقين”، وتابع الصدر “إن رضيتم بي قائدا إصلاحيا غير مجتهد ولا معصوم ولا إمام فأهلا بكم، وإلا فهذا فراق بيني وبينكم إلى يوم الدين”، وهنا لعل الصدر وجد نفسه مسؤولا عن الرد على دعاية سياسية يروجها خصومه من داخل الإطار التنسيقي من أن “القيادة” تستلزم الاجتهاد أو التبعية للمجتهد! لقد كانوا يحاولون إثارة أي مؤشر على التصدع داخل أجواء التيار الصدري واستقطاب الشخصيات التي تحمل عناوين صدرية، لكنهم فشلوا بذلك، بالنتيجة فإن الصمت السياسي الذي مارسه التيار لم يكن نهاية حراكه، خاصة وأنه اعتمد على مساحة اجتماعية وسلمية للرد على خصومه من خلال تحريكه لخيار مقاطعة انتخابات المجالس المحلية دون اللجوء إلى الممانعة أو العنف، إذ ساندته وأيدته حركات سياسية شبابية وجماعات أخرى وطنية استطاعت أن تجعل من يوم الاقتراع يوما للمقاطعة الاحتجاجية تمت فيها معاقبة النظام وأدواته بالبراءة الشعبية الكبرى.

في التاسع والعشرين من أغسطس 2022، قال السيد مقتدى الصدر في بيان له عقب إعلان مرجعية الحائري اعتزالها وإسقاط جميع الوكالات والأذونات الشرعية “إن النجف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوما”، هذا الموقف كان كافيا لتعزيز موقعه في الحوزة الدينية، وصولا إلى بلوغ مرحلة إعلان الهوية الوطنية الخاصة به، وهو ما أعلن عنه بشكل أوضح الآن من خلال تبنيه لـ”التيار الوطني الشيعي” بعد صوم سياسي لمدة عامين، ليعود معه طرح زعامة دينية واجتماعية وسياسية للتيار وهذه المرة بإشارة واضحة إلى الشيعية العراقية ومركزها النجف الأشرف.

بتنقيب بسيط ينكشف للشيعي في الداخل أن إرادة قوى السلطة لا ترفض تأثير كل من الولايات المتحدة وإيران على قراراتها الوطنية دفعة واحدة

لقد كانت تحركات الصدر الأخيرة محسوبة بعناية وهي تعيد الحيوية للأجواء الاجتماعية والوطنية المناصرة لتياره المُعتزل والبعيد عن السياسة التقليدية، ومن خلال حضوره اليومي في أزقة النجف خلال الأسابيع القليلة الماضية كان يريد القول إنه لن يتجاوز على مساحتها العقائدية والاجتماعية والسياسية، كان ذلك ردا مبتكرا منه لمحاولات سحب الغطاء المرجعي عنه والتأثير على القواعد الشعبية أو قيادتها قبل الانتقال إلى جرها إلى خارج أسوار العراق وتحديدا إيران وولايتها العامة، فالنجف لن تزاح من منهج الصدر والصدريين وتبقى هي مكان الريادة الدينية والوطنية لهم ولشيعة العراق والعالم.

بموازاة ذلك كانت حسابات إلكترونية ممولة وتابعة لقوى وشخصيات في الإطار التنسيقي تستفز أجيالا ناشئة في التيار الصدري عبر نشر رأي ديني للمرجع الفياض ورد فيه “تقليد الميت ابتداءً مشروط بشروط لا يتمكن العامي من إحرازها بل ولا بإمكان الطلبة من إحرازها”، وهو ما اعتبرته القاعدة الصدرية بمثابة استهداف لها، ومحاولة لإبقائها من دون مرجعية دينية!

المفارقة أن الماكنة الإطارية والولائية تغافلت عن أن السيد الخامنئي نفسه لا رسالة عملية له ويجيز العمل بتحرير الوسيلة للسيد الخميني ابتداء إلا بالمستحدثات، ونسوا أنهم فئة خاصة كانت تحذرنا قبل عامين من ضياع المكون الأكبر على يد الصدر و”رغباته” بالأغلبية، في حين أنهم لم يتورعوا عن التقريع والتوهين بأكبر فاعل اجتماعي شيعي في العراق كالتيار الصدري وجعله عِرضة للتصدّع والضعف!

وبصورة أساسية لم يُترك الصدر في عزلته السياسية خارج معادلة الصراع الديني، وتفاقمت مراحل الاستقطاب ضده إلى المستوى الذي كان يُفترض أن يسبب ثلمة بين جيل أكبر سنا، وجيل شاب من الأتباع الصدريين لم يكن قد عاصر بعد عهد المرجع الوالد السيد محمد محمد صادق الصدر.

في المقابل، لم يحاول بيت المرجع الأعلى السيد السيستاني استخدام الطريقة المعلنة من قبله والتي سادت موقفه في غلق الباب بوجه الزعماء السياسيين، فالباب بقي مفتوحا أمام السيد مقتدى الصدر إلى لحظة كتابة هذا المقال، فيما أخذت المؤسسات التابعة للمرجعية طريقا واضحا في تنمية التعامل بشكل مباشر مع هذا الوضع عبر تقوية دور العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وأجنحتها العسكرية المستقلة عن الحشد وغيرها مع قوة سرايا السلام الجناح العسكري الصدري المسؤول عن أمن مدينة سامراء من التنظيمات الإرهابية، فقابل الصدر هذا التواصل العميق بدعوة قواعده إلى الاندماج في الزيارات والمناسبات الدينية والاجتماعية مع سائر المؤمنين من دون أي مسمى غير الإسلام والمذهب والوطن إلا من (أفسد) و(ظلم) و(هادن).

وهو يرى ويراقب الدولة تتمزق بجماعات لا تشبهها، صرح السيد الصدر مؤخرا عن وجهته من خلال التيار الوطني الشيعي الذي لا تنازل فيه عن حدود العراق ولا يميز الشيعة في الداخل بأي تمييز خاص عن هويتهم الوطنية أو ما يراد لهم أن يكونوا وقودا لغيرهم، تجمعهم جغرافية وطنهم لا جغرافية العقائد، منهم المؤمن بأيديولوجيات مختلفة، ومنهم الإسلامي ومنهم اليساري ومنهم الليبرالي، فالوطنية تضيف إلى موقع ومقام الشيعي الاندماج في مجتمعه مع باقي المكونات والشرائح الاجتماعية، ولا تمحو ثقافته وحقيقته، إنها مرحلة التحشيد للمكون الاجتماعي الأكبر الذي يجتمع فيه شيعة العراق بدوافع عراقية قحة، دون أن تعيقها “أقلية” التحالفات التي خسرت وتخسر مصداقيتها من شيعة الوسط والجنوب.

7