الحشد.. مالكي أم سيستاني

الأحد 2016/07/24
ترتيب الرايات حسب الأولوية

عدد من الغاضبين تولوا التعبير على مواقع التواصل الاجتماعي بهشتاغ #حشد_المالكي_لا_يمثلني عن تعاسة ما قام به قائد منظمة بدر هادي العامري بعد أن وضع الفضل في تأسيس الحشد لـ”المالكي في بداية عام 2014”، مع ذهاب عدد من المتعاطفين مع الفصائل المسلحة غير التابعة لإيران إلى تفسير كلام العامري بأنه يحمل نوايا الغرض منها إخفاء دور مرجعية السيد السيستاني في تحفيز المتطوعين الشيعة على استعادة المدن السنية من يد تنظيم داعش.

“اعتراف” هذا أم “تصحيح” من العامري لا نختلف في شأنه كثيرا، في كلا المعنيين كان الرجل صريحا وواضحا ولا يذهب إلى أبعد من الإقرار بأن تمدد داعش في العراق كان مرحلة يعوّل عليها في إعادة التوازن بين الأجنحة المسلحة الشيعية، من خلال إعادة اصطفاف الموالية منها للإيرانيين ودمج وظائفها داخل كيان يتبنى قضية “الدفاع المقدس”، والتصدي لـ”المؤامرات”.

أما الظهور العلني أمام فصائل عسكرية لتقديم “الإحسان” للمالكي في بناء الحشد “المقدس” ودعم “المقاومة”، فيكشف أن كل السبل كانت مهيأة، ومدروسة النتائج، ومقدرا لها تقديرا دقيقا لتفضي إلى تأسيس جيش رديف له رمزية خاصة ووظائف خاصة، قبل فتوى السيد السيستاني في الـ13/6/2014 عقب سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، والتي أعلن فيها “الجهاد الكفائي” لمساندة القوات الأمنية.

من اللازم إذن أن نعرف من الذي هيأ ظروف التأسيس لمثل هذه القوات، (الحشد الشعبي)؟ ولأيّ غرض كانت موجودة قبل داعش وتقاتل ضد من؟ وهل كان الوضعان الاجتماعي والاقتصادي في العراق يسمحان بزيادة الأكلاف فوق الأعداد المترهلة للجيش والشرطة؟ والسؤال الأبرز هل كانت الدولة بحاجة لوجود وحدات عسكرية خارج منظومة الأمن الحكومية؟ وفي أيّ المناطق تقوم بمهامها “السنية” أم “الشيعية”؟

ارتياب المالكي من سنة العراق

أثناء توليه لمنصب رئيس الوزراء لم يكتف المالكي بإبعاد العديد من القادة السنة عن الجيش والشرطة، وكان المأخوذ على حكمه من القوى السنية أنه لا يثق بأي واحد منهم يتولى موقعا تنفيذيا أو رقابيا. كان يرى عودة صدام بهؤلاء ليست عقيمة. ظل الارتياب لا يفارقه من المجتمعات السنية وقياداتها المشاركة في العملية السياسية إلى أن وصل به الحال في يناير 2012 إلى الإقدام على ملاحقة وزير المالية رافع العيساوي، الذي تمت مداهمة مكتبه من قبل قوة أمنية أرسلت بأوامر من مكتب القائد العام للقوات المسلحة. وانتهت العملية باعتقال 16 فردا من حمايته الشخصيين الذين رافقوه طيلة 10 أعوام.

تمدد داعش في العراق كان مرحلة يعوّل عليها في إعادة التوازن بين الأجنحة المسلحة الشيعية، من خلال إعادة اصطفاف الموالية منها للإيرانيين ودمج وظائفها داخل كيان يتبنى قضية "الدفاع المقدس" والتصدي لـ"المؤامرات"

في بداية عام 2012 كانت القوات الأمنية قد تمكنت من اعتقال عدد من الضباط والمنتسبين الذي يعملون لصالح نائب رئيس الجمهورية آنذاك طارق الهاشمي، القيادي في الحزب الإسلامي. وعرضت اعترافات بعضهم عبر فضائية العراقية التابعة للحكومة. وأشاروا فيها إلى قيامهم بحوادث خطف واغتيال ضد مسؤولين عسكريين وموظفين كبار في الدولة، وحكم على 4 منهم بالإعدام.

ولاحقا شمل الحكم الهاشمي نفسه الهارب إلى تركيا، لكن ذلك لم يشكّل صدمة للسنة ولم يدفعهم للاحتجاج ضد حكومة بغداد إلا بعد قيام السلطات بمطاردة العيساوي عبر اتهامات وجدها سكان الرمادي والفلوجة خاصة وسامراء والموصل وديالى والحويجة وتكريت أنها تشكل ضربة ومحاولة لتصفية شراكتهم في الحكم مع الشيعة.

بدأ الناس ينظّمون تظاهرات كبيرة في الفلوجة والرمادي انضم لها العيساوي وقادة سياسيون من السنة، وفي أكبر تجمّع سني غاضب ضد المالكي كان حاضرا الشيخ عبدالملك السعدي، أحد أبرز علماء السنة في العراق. ووجَّه في كلمة له المتظاهرين نحو السعي للقضاء على بذرة الطائفية ورفع شعارات لإصلاح أوضاع العراقيين في الجنوب والوسط الذين لم يحصدوا من النفط سوى “الأمراض والعوز والجوع”.

استمرت التظاهرات أشهر حتى استقطبت شرائح مختلفة من المجتمع السني وراحت تستجلب مطالبات أوسع من الإفراج عن حماية العيساوي أو إعادته إلى منصبه الوزاري، كإلغاء “المخبر السري”، والتوازن في ملف التعيينات، وإطلاق سراح السجناء والسجينات ممن لم تثبت إدانتهم بـ”الإرهاب”.

ما كان من حزب المالكي إلا أن يواجه تلك المطالب من خلال استرداد الرموز التاريخية والشعارات الطائفية، حتى أنه أفرط كثيرا في توصيف ما جرى بأنه محاولة من “أنصار يزيد العصر ضد حسين العصر”، كان هذا يحدث بالتزامن مع رفع المحتجين في الأنبار شعارات الحزن والعزاء للمسلمين بأربعينية الإمام الحسين التي تزامنت مع نصب خيام اعتصامهم ضد الحكومة.

وطوال تلك الفترة الحساسة التي كانت تمتد ما بين نهاية 2012 ونهاية 2013، بدأ الوضع السني يُظهر تحولا ضد الحكم المركزي الذي يقوده نوري المالكي وقياداته الأمنية. وصار ينظر إليه من كونه رجل مطبّق لـ”فرض القانون” إلى “دكتاتور” مسلط على مناطق نفوذهم في العراق. ووصل به الحال إلى ترك عجز وفشل وفساد ضباطه وضعفهم عن وضع خطط حقيقية لمواجهة الإرهاب، ليحمّل السُنة واعتصامهم في غرب العراق وشماله مسؤولية الخروق الأمنية في الجنوب أو الوسط.

المالكي حمل رهانه على جسارة الميليشيات

لقد كان المالكي يرى نفسه أنه كلما يتحرك ضد السُنة زاد ذلك من شعبيته بين الشيعة لهذا كان لا يمانع في الاستمرار باستخدام الشارع الشيعي ضد الشارع السُني أو التعاطي بالنيابة عن الشيعة ضد السُنة.

ما زالت عالقة في الذهن تلك التظاهرات المحدود التي كان ينظمها حزبه في ساحة التحرير ببغداد والتي كانت تضع المالكي بمقام المحامي عن الشيعة عبر لافتات كتب فيها “لا وليّ إلا علي.. يبقى قائدنا المالكي”، في واحدة من أساليب شحن العواطف الطائفية والتخفي بها ضد فشل الخدمات وتعاسة العيش تحت حكومته التي ينخرها الفساد من كل جانب، كان التعصب المذهبي وصفة فاعلة يلجأ لها النظام كلما أراد تخدير التغيير وإصلاح الوضع.

لقد أخذ التطرف يستحوذ على منابر دينية وقنوات إعلامية وخطابات حكومية ومنصات الاعتصام، ولم يستثنِ حتى بعض النخب التي كانت تعيش جوا هيستيريا، وتقلبا في المزاج، وغيابا في التحكم بالوضع الذي كانت تغطيه الإشاعات والانفعالات المذهبية. كان هذا الوقت المناسب للمالكي أن يجعل الانقسام طريقه السالك للولاية الثالثة، عبر انتخابات استثنيت فيها مدينة الفلوجة ومدينة الكرمة من الاقتراع بسبب سوء الأوضاع الأمنية وكذلك بعض أحياء الرمادي.

وفي بغداد شهدت بعض مراكز الاقتراع سيطرة بعض الميليشيات التي كان يقودها رجل الدين أبو كميل اللامي بملابسه العسكرية التي كتب عليها شعار “يا لثارات زينب” ويتحدث شهود أنه كان وسيطا لكسب التصويت إلى ائتلاف المالكي. وفي 7 أبريل 2014، أي قبل سقوط الموصل بشهرين، كشف الخبير العراقي والزائر في معهد هدسون الأميركي للدراسات نبراس الكاظمي، محضرا لاجتماع التحالف الشيعي.

وكان المالكي يعتني باستخدام التحذيرات لشركائه الشيعة من أن “القضية أصبحت خطرة جدا”، وبحسب التسريبات التي نشرت في ذلك الوقت ولم ينف أيّ طرف من أطراف التحالف ما جاء فيها، أن المالكي كان يضع إمكانات الدولة جزءا من الحرب بالنيابة عن إيران وسوريا. وكان يشير بحسب المحضر إلى ذلك بالقول “تحدثت مع الأميركان بكل صراحة وقلت أوقفوا هذا المحور السني العربي التركي وإلا سوف يكون قبالته المحور الشيعي الإيراني ولكنهم للأسف لم يستطيعوا؟”.

بل إن اجتماعا كهذا للتحالف الذي كان من المفترض أن يضع المالكي تحت المساءلة لقيامه بتسليم الفلوجة لداعش والهروب للخلف من مواجهته كان جميع من فيه يعيش حالة الإنصات لمقترحاته الداعية لـ “تشكيل مجلس شيعي إقليمي لمواجهة العدوان من قبل الآخرين” يقصد الدول العربية السنية.

قائد منظمة بدر هادي العامري وضع الفضل في تأسيس الحشد للمالكي مع ذهاب عدد من المتعاطفين مع الفصائل المسلحة غير التابعة لإيران إلى أن كلام العامري يحمل نوايا الغرض منها إخفاء دور مرجعية السيد السيستاني في تحفيز المتطوعين الشيعة على استعادة المدن السنية من يد تنظيم داعش

تسليم الفلوجة لداعش

كان ذلك العمق الحقيقي في نهج وتفكير مؤسس “الحشد الشعبي” نوري المالكي، إنه رجل لا ينكر ذاته ويضع أفكاره على الطاولة كما لو أنه زعيم لشيعة مؤمنين به وبتجربة حكمه! وكأن تنظيما مثل داعش الإجرامي جاء بمثابة هدية من السماء ليعيد التذكير بالمالكي لكن بثياب وأسلحة “المقاومة الإسلامية”.

ورغم كل هذه التحديات التي واجهها العراقيون خصوصا بعد توقيت الحرب على الإرهاب قبل الانتخابات بأسابيع أخذت المرجعية تحمل مسؤولية الإرشاد للمشاركة الواسعة في الاقتراع وتغيير “الوجوه التي لم تجلب الخير للعراق واستبدالها بآخرين أكفّاء تحترق قلوبهم على الشعب”. كان هذا جزءا من خطبة صلاة الجمعة (4/4/2014) في كربلاء بإمامة ممثّل السيد السيستاني الشيخ عبدالمهدي الكربلائي.

اكتفى الأخير بالمطالبة بالمشاركة “الفعالة” و”الواعية” في انتخابات 30 أبريل 2014 دون أن يعلن أيّ موقف يتحكم بمزاج الناخبين لصالح كتلة سياسية ذات مؤشر ديني أو طائفي أو فكري. لكن جهات حاكمة في البلد كانت تحاول بين الحين والآخر ربط ذلك الموقف بسياستها وفلسفتها، ما اضطر مرجعية السيد السيستاني إلى استخدام أسلوب المواجهة بالنصح العلني لعزل نوري المالكي. وهو ما برز على لسان السيد رشيد الحسيني، أحد أبرز وكلاء السيستاني في كلمة له بمحافظة بابل، اتهم فيها “المالكي بافتعال تظاهرات الأنبار وهروب السجناء وإطلاق سراح البعثيين لكي تبقى أزماته تشغل الناس عن التفكير بانتخاب غيره”.

صمت النجف

في أشد الأوقات تعقيدا كاحتلال تنظيم داعش للموصل وإعلانها إمارة للبغدادي، بعد تهجير الآلاف من العوائل السُنية والشيعية والشبكية والإيزيدية والمسيحية والكردية والعربية، لم تكتف المرجعية بدعوة “المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين بالتطوع للانخراط في القوات الأمنية” (13/6/2014)، بل ذهبت في اليوم التالي (14/6/2014) إلى إصدار 3 بيانات استدركت فيها عدة قضايا هامة منها:

* “مناشدة جميع المواطنين -ولاسيما في المناطق المختلطة- بأن يتحلّوا بأعلى درجات ضبط النفس”.

* “التطوع للدفاع عن البلد والمقدسات في مواجهة الإرهابيين يكون عبر الآليات الرسمية وبالتنسيق مع السلطات الحكومية، مع تحديد الجهات الرسمية للأعداد المطلوب تطوّعها في الجيش والشرطة دون أن يتحول الأمر إلى زيادة السواد”.

جرائم عديدة للحشد الشعبي في حق المدنيين

* “مطالبة القنوات الفضائية التي وضعت صورة السيد السيستاني على شاشاتها أن تقوم باستبدالها بخارطة العراق”.

كانت تلك السلسلة من التوضيحات مطلوبة للنجف التي اتخذت طابع عدم إخفاء مواقفها السياسية قبل اللجوء للصمت، إنه أقرب ما يكون إعلانا مبكرا للتخلّي عن زجّها بأعباء ومخاطر صناعة كيان عسكري غير رسمي موازٍ للمؤسسة الأمنية الدستورية، يحمل طابعاً مذهبياً تتولّى إيران ضخ المال والسلاح له وتشرف على تحويله كقوة “ممانعة” له فلسفة سياسية خاصة تجاه دول الخليج السني ومصالح أميركا في العراق، كمسار حزب الله في لبنان الذي لا تجازف أيّ جهة في التصدي له ونزع سلاحه.

المتتبع لمراحل خطاب مرجعية النجف بعد توغل داعش في العراق لم يجد سوى مطالبتها الجهات الأمنية القانونية للقيام بتحمّل واجبها الوطني لإلحاق الهزيمة بالإرهاب بعد استخدام الدعم لها من قبل “المتطوعين”، ولم يلحظ لـ”الحشد الشعبي” كمفردة أيّ حضور في البيانات الصادرة من المرجعية منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا، وسبب ذلك باعتقادي خاضع لإرادة المرجعية الدينية في إرسال رسائل لمن يريد أن يمكّن نفسه قائداً للفصائل الشيعية الجهادية أنّ عليه تحمل النتائج، إنه أسلوب ومنهج وطرح يختلف عن الآخرين وقد يفضل السيد السيستاني استخدامه للفرز بين دعم القوات الأمنية والتجاوز عليها.

معروف عن المرجعية أنها لا تتّبع أسلوبا لا يصب في مصلحة الجميع. ومثلما نشر موقعها الإلكتروني في يوم 18/8/2014 أسباب سعيها في اللجوء إلى تعطيل حصول المالكي على الولاية الثالثة، إذ فسرت ذلك “الملف الذي كان يحتكره بجميع مفاصله ولم يكن لغير من يعينهم ويرتضيهم من القيادات والمسؤولين أيّ دور فيه، فكان هو المسؤول عن الإخفاق الكبير، بخلاف بعض الملفات الأخرى كملف الخدمات الذي طالما اعتذر عن فشله فيه بأن الوزراء الخدميين يتعمّدون عدم تحقق أيّ إنجاز ملموس نجاحا له”، فضلا عن أن اختيار رئيس وزراء جديد يصبّ في مصلحة السنّة ما كان ليتحقق لولا موقف النجف من عزل نوري المالكي بالرغم من معارضة إيران للأمر (الدكتور حامد الخفاف ممثل السيستاني في بيروت). فهل تغادر النجف صمتها السياسي قريبا بعد أن اكتفت بفتوى “جهادية” دون صيانتها من تحركات المالكي ومراوغاته التي لم تخفي شهوته بالعودة إلى الصف الأمامي، والتسلق بسلاح “المقاومين” كقائد للتعبئة يحمل رهانه على جسارة الميليشيات بافتعال ما يهواه ويتمناه؟

كاتب عراقي

6