النجف.. صمت المرجعية وعدم سكوتها

الثلاثاء 2016/06/07

قد يصبح البحث في دوافع صوم النجف عن مخاطبة السياسيين في ظروف مثل التي يمر بها العراق ودولته المشلولة، جافا ومملا دون أن يستحدث نتائج متطابقة مع الحقيقة، لكنه يمكن أن يحفز على قراءة المراحل التي تمر بها النجف بعد أكثر من 14 عاما على انهيار الدولة المستبدة، واستحواذ الشيعة على الجزء الأكبر من عملية سياسية بدأت بـ“انتصار للمذهب” وانتهت وهي تواجه المذهب الذي تمكن في 31 أبريل 2016 من اقتحام المنطقة الخضراء مركز صناعة القرار.

في الرابع من يوليو 2015 قال زعيم المجلس الإسلامي الأعلى عمار الحكيم بمناسبة الذكرى الـ34 لتأسيس منظمة بدر إن “فتوى المرجعية الدينية هي من أوقفت نداء قادمون يا بغداد”. الحكيم يشير إلى الدعوة الصادرة على لسان ممثل السيد السيستاني في كربلاء الشيخ عبدالمهدي الكربلائي التي أشار فيها إلى مسؤولية الجميع في مقاتلة داعش على نحو “الواجب الكفائي”.

“الواجب الكفائي” بالرغم من أنه كان بمثابة دور مباشر قادت منه المرجعية جولتها مع الشيعة في العراق، واستعرضت مدى التأثير الذي تتركه على الأفراد والجماعات الشيعية حين تريد أن توجههم نحو طريق ما، خصوصا في حالة الدعوة إلى “الشهادة”، وبالإضافة إلى ما قامت به المرجعية من القيام بالتحشيد لمجابهة تنظيم داعش عبر التطوع في الجيش أو الشرطة فقط، إلا أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي استطاعت استخدام الأمر كذريعة لصناعة ميليشيات مسلحة يقودها نواب ومسؤولون تنفيذيون بعد تفرغهم لـ”الجهاد”، وكأن كل شيء في تلك الفترة ينتظر الفتوى، الفتوى التي حولت سياسيين من أطراف في الأزمة إلى “قادة” و“مجاهدين” و“منقذين”.

لم يدم الوضع طويلا حتى تحول عدد كبير من الناس من “الجهاد” إلى التظاهر في يوليو 2015 ضد إخفاق حكومة حيدر العبادي في تحسين مستوى الطاقة الكهربائية مع بلوغ الحرارة مستويات جهنمية. بدأت حشود عراقية من المحتجين تتجمع في مراكز المحافظات العراقية لإطلاق احتجاجاتها كل جمعة وقد حظيت مطالبها بدعم المرجع الأعلى في العراق السيد السيستاني الذي دعا العبادي إلى التمرد على الفساد والطائفية وأن يكون أكثر جرأة في قراراته الإصلاحية والضرب بيد من حديد على المفسدين.

واختزالا للأحداث يمكن القول إن لا شيء من “الإصلاح” تحقق بعد هذا التكليف المباشر من النجف للحكومة سوى التنازع والتحارب والانشقاق بين الحزب الواحد والائتلاف الواحد، ما دفع السيد السيستاني إلى عدم عرض رأيه السياسي أسبوعيا في خطب الجمعة، منتظرا الضرورة التي لم تأت بعد.

إمساك المرجعية عن السياسة ولد فراغا سمح لأطراف شيعية رئيسية ممارسة اللعب دون أن تتقيد بالنجف، فالمالكي والحكيم والصدر هم أضداد مرحلة جديدة سنكتشف لاحقا من يتعاضد مع من على رجل واحد يبقى معزولا إلى نهاية المطاف.

بعد شهر على ابتعاد السيستاني عن النصح السياسي، ظهر العبادي حاملا دعوة الكتل السياسية إلى أن تقدم مرشحين تكنوقراط لمناصب وزارية. قرأت أطراف سنية وكردية الأمر بأنه محاولة لجرها إلى مواجهة مع الغاضبين الذين صاروا في ما بعد معتصمين حول المنطقة الخضراء، بينما ظلت القوى الشيعية تراوح بين دعم العبادي في حال عدم القفز على استحقاقاتها من التغيير، أو شموله بـ“الإصلاحات الجذرية”، وكانت جماعة عمار الحكيم أبرز من تمسك بهذين الشرطين بعد وقوع ثلاث قيادات تدير وزارات النفط والنقل والرياضة بـ“حرج الاستبدال”.

في هذه الأثناء استعاد الصدر دوره ليفرض أمام بقية قوى التحالف الشيعي نموذجا محددا من “الإصلاح” قدمه العبادي في ما بعد للبرلمان داخل ظرف مغلق، لكنه كان مفتوحا أمام وسائل الإعلام فتسرب منه 16 مرشحا تم اقتراحهم من لجنتي العبادي والصدر لشغل وزارة “التكنوقراط” الجديدة. عادت بقية الأطراف لرفض هذا التوجه، فذهبت للتوقيع على مبادرة تكرس “التوازن” بينها سميت في ما بعد بوثيقة “الشرف” التي رعاها عمار الحكيم ووقع عليها أغلب المتصدين من القوى السياسية وضمنهم حيدر العبادي الذي كان قبل وقت قصير منددا بالمحاصصة ومستجيبا للصدريين.

الصدر وأنصاره نجحوا في كسب الوقت لصالحهم، واستطاعوا ملء ساحات الاحتجاج في بغداد بالآلاف من المتظاهرين وكسروا بذلك الفرصة التي كان من الممكن أن تتصرف بها الجماعات الموالية لإيران. كان الحساب في ذلك الوقت دقيقا، إلى درجة أنه أضعف تجوال الفصائل المسلحة المنشقة عن التيار الصدري تحت مسميات منتمية إلى الحشد الشعبي لأكثر من شهرين في العاصمة، بل يقال إن مكتب السيد السيستاني كان غير منفصل عن حركة الصدريين في بغداد ومطمئنا بأن الأمور تسير باتجاهات لا تسمح للمالكي والفصائل المسلحة المتعاطفة معه بركوب إحباط المرجعية من السياسيين والعودة بنظام يجعله في الواجهة من جديد تحت لافتة المُصلح، لا سيما وأن فتوى “الجهاد” كانت تجربة استطاعت من خلالها الميليشيات أن تنفذ في مدن لا وجود لداعش فيها كالبصرة وبغداد والديوانية، لكن المرجعية استدركت الأمر بالدعوة إلى إعادة تقييم المتطوعين والسيطرة عليهم من قبل المؤسسة الأمنية وحصر السلاح بيد الدولة.

كان الطريق متاحا للصدريين أكثر من غيرهم لضرب المبدأ الذي تأسس عليه تمثيل الشيعة في النظام والذي يحتكر حزب الدعوة الإسلامية فيه رئاسة مجلس الوزراء، أو على الأقل كان الصدر يستطيع سحب العبادي إلى جانبه دون أن يبقى تابعا للمالكي في تسلسله القيادي بالحزب، لكن ذلك لم يكن يسيرا أبدا، وكما يبدو من فيديو نشر على مواقع التواصل يظهر فيه العبادي مرحبا بمقتحمي المنطقة الخضراء، أن الرجل كان يتعامل برضى مع ما جرى إذا ما كان مخططا له. أما مشاهد ضرب نواب ومحاصرة سياراتهم داخل المنطقة المحصنة، فقد كانت تشكل استقطابا لعواطف البغداديين الذين نفروا من بيوتهم يوم 30 أبريل 2016 لالتقاط السيلفيات مع أشجار وشوارع كانت تحجبها عنهم إجراءات حرس المنطقة وجدارها الكبير.

جعلت تلك الأحداث الصدر وحيدا وملاما من غالبية التيارات السياسية الشيعية، وأقربهم إليه في التحالف كتلة “المواطن” بزعامة السيد عمار الحكيم، وصار ينظر إلى الصدريين على أنهم يريدون إجبار الآخرين بـ“التكنوقراط” على طريقتهم الشعبية.

كل هذا يحصل والمرجع الأعلى يعيش صمتا تحير الأتباع والخصوم، ويولد لديهم نوعا من عدم الوضوح في المنهج الذي يسلكه، فكيف يمكننا تصور الوضع بعد ترقي النجف عن مخاطبة السياسيين ونقد أدائهم، متزامنا ذلك مع أسوأ ظرف اقتصادي تعيشه الدولة بسبب انخفاض اعتماد المنطقة على النفط، وتبدد الموازنات المليارية بشبهات الفساد.

التنقيب عن قناعات المرجعية في ما يجري ليس سهلا، مع اتخاذ مكتبها في النجف الصمت عن الكلام لصالح أي طرف من الأطراف، لكن فترة اعتكافها عن السياسيين وإن طالت فإنها لا تخفي رأيها في أشد الظروف وأكثرها تعقيدا. فهل أضاع الدعاة ذاكرة الأيام واضطراباتها التي بدأت مع أول رئيس لمجلس الوزراء منهم في 2005 ممثلا بإبراهيم الجعفري، وصولا إلى حيدر العبادي الذي مازال غير منتبه بعد أنه من يمكن أن يكون آخر زعيم من الدعوة يتطلب أن تتخذ المرجعية قرارا سياسيا بحقه في حال تعمق الإحباط من تحسن الأمور على يديه؟

قد يظهر التحول لدى شيعة العراق في الأفق القريب، من النهج الذي كانوا يتمسكون به بعد 2003 وهو الإصرار على إحقاق حقهم في مسك الحكم، إلى النظر باحتقار للتحالفات التي جاؤوا بها عبر الانتخابات. وربما عكست الاحتجاجات حول المنطقة الخضراء مزاجاً صدرياً من خلال اعتصام زعيم التيار داخل المنطقة الخضراء في 27 مارس 2016، وأظهرت نداءات جديدة ضد المذهبية أو المحاصصة، لكنها عبرت عن نهوض قوة سياسية اجتماعية شيعية ضد شيعة الدولة.

وضع يتطلب من الشيعة إعادة تعريف صورتهم، وتحديدا ارتباطهم بالجماعات السياسية بعد أن بنيت عليها ذهنية القلق من الحاكم غير الشيعي أو العلماني، وبالأحرى الذين اتخذ الإسلاميون منهم موقفا عدائيا عزز مخاوف المجتمعات البسيطة وزاد من هواجسها.

كاتب عراقي

8