مقبرة "مكت رع" مستودع النماذج الفنية الفرعونية

آثار تؤكد براعة الفنانين القدامى في التعامل مع المواد والتفاصيل.
الخميس 2023/08/31
النحت بدقة عالية

إلى اليوم لا يزال ما يصلنا من آثار من الحضارة الفرعونية مهما للغاية نظرا إلى ما يختزله من جوانب تاريخية علاوة على الجانب الأبرز ألا وهو الفني، إذ تزخر المقابر بالعديد من الأعمال الفنية الفريدة من نوعها، والتي تثبت ما وصل إليه الفنانون من إتقان في ذلك الزمن.

الأقصر (مصر) - أكثر من 100 سنة مضت على اكتشاف مقبرة “مكت رع”، الذي كان أحد المسؤولين الكبار في عصر الدولة الوسطى بمصر القديمة، والذي شغل مناصب عدة منها كبير كبار الخدم والمستشار المالي، وخازن بيت المال في عهد الملك منتوحتب الثاني، ويرجح آثريون أنه عمل أيضا في عهد الملك امنمحات الأول، وكان من بين الألقاب التي عرف بها: "الأمير الوراثي"، و"السمير الوحيد"، و"حامل الختم"، و"مدير القصر"، و"المحبوب من سيده".

وقد اكتسبت مقبرته التي يرجع تاريخها لأوائل الدولة الوسطى، في منطقة “الشيخ عبد القرنة”، بجبانة طيبة القديمة – مدينة الأموات – في البر الغربي لمدينة الأقصر التاريخية بصعيد مصر، أهمية كبيرة لدى الآثاريين وعلماء المصريات، حيث كشفت محتويات المقبرة عن صفحة مجيدة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والدينية في مصر القديمة بشكل مجسم تمثل في الكثير من النماذج الفنية الفرعونية التي عثر عليها بالمقبرة.

مقبرة “مكت رع”، التي اكتشفت في عام 1922، عُثر بها على عدد كبير من النسخ الخشبية المقلدة التي تسمّى بالنماذج الفنية  (Models)والتي تصوّر الأنشطة اليومية والكثير من مظاهر الحياة في مصر القديمة، كما عُثر بالمقبرة أيضا، على تماثيل مصغرة من السفن والماشية والمباني.

وقد نحتت هذه المقبرة المهمة في صخرة من صخور جبل القرنة الذي يحتوي على المئات من المقابر المصرية القديمة، وتطل المقبرة على معبد يعود إلى الأسرة الحادية عشرة من أسر مصر القديمة، ويقع بمنطقة الدير البحري، التي تضم أيضا المعبد الشهير للملكة حتشبسوت.

كنوز المقبرة

◙ محتويات مقبرة “مكت رع” تدل على أنه كان صاحب سلطان عظيم في البلاط الملكي
◙ تماثيل قديمة 

وقبل اكتشاف مقبرة “مكت رع” عثر الآثاريون على اسمه منقوشا في معبد بالدير البحري، وتدل محتويات مقبرة “مكت رع” على أنه كان صاحب سلطان عظيم في البلاط الملكي، ويدل تصميم المقبرة بأنه نحت لابنه المسمى “انتف” مقبرة في نفس مقبرته، وقد أصبح فيما بعد “انتف” هذا أميرا، وحامل ختم الملك.

يقول عالم المصريات الدكتور منصور النوبي، العميد الأسبق لكليتي الآثار بجامعتي الأقصر وجنوب الوادي، إنه رغم تمكن لصوص الآثار من دخول المقبرة قديماً، فإنه حين جرى اكتشافها عثر فيها على سرداب لم يمسسه بشر من قبل، وأشار إلى أن استخدام السراديب في مصر القديمة كان شائعا بهدف حفظ تماثيل صاحب المقبرة، ثم تطور الأمر إلى استخدام السراديب في حفظ تماثيل صاحب المقبرة وأفراد عائلته، ثم أقيمت سراديب خاصة لأصحاب الحرف والمهن وكذلك الخدم الذين كان يحتاجهم المتوفى في حياته في العالم الآخر".

◙ مقبرة "مكت رع" عُثر بها على عدد كبير من النسخ الخشبية المقلدة التي تسمى بالنماذج الفنية

وبحسب النوبي فإن النماذج الفنية، والتي تمثل الخدم وأصحاب الحرف والمهن، كان يتم نحتها وصنعها في ورش خاصة، وكان صاحب المقبرة يقوم بالإشراف على عمل الفرق التي تقوم بنحت وصنع ما سوف يضعه في مقبرته من تماثيل ونماذج فنية مصغرة.

وينوّه عالم المصريات إلى أن هذه الفكرة كانت منتشرة انتشارا كبيرا بين المصريين حوالي سنة 2000 ق.م. فكان كل فرد في مقدوره أن يشترى مثل هذه النماذج لتوضع معه حول تابوته أو بالقرب منه في المقبرة. ويؤكد النوبي على أن مقبرة “مكت رع” هي المقبرة الأكبر من حيث عدد النماذج الفنية التي عثر عليها بداخلها عند اكتشافها قبل أكثر من 100 سنة.

ويلفت إلى أن هذا النوع من النماذج منتشر في الكثير من متاحف العالم، مرجعا سبب عدم وصول اللصوص إلى تلك الكمية الكبيرة من النماذج الفنية في مقبرة “مكت رع” لقيام المهندس الذي صمم المقبرة بعمل سرداب لوضع تلك النماذج، حيث ظللت بعيدة عن أعين اللصوص الذين كانوا يحترفون نهب كنوز المقابر في عهد الدولة القديمة.

يقول عالم الآثار المصري بهاء عبدالجابر، المدير العام لمنطقة آثار القرنة غربي الأقصر – حيث تقع مقبرة “مكت رع” – إن ما عُثر عليه من نماذج فنية في مقبرة “مكت رع” كان له دور كبير في التعرف على الحياة الاجتماعية بمصر القديمة في تلك الفترة التي ظل تاريخها غامضا حتى اكتشاف تلك المقبرة في عام 1922.

ووفقا لكتب المصريات، فإن هذه النماذج التي عُثر عليها في مقبرة “مكت رع” كشفت لنا تفاصيل الكثير من الأعمال والمناظر الحيوية والصناعات الدقيقة التي رسمت في مجملها صورة واضحة للحياة اليومية في مصر القديمة قبل 4000 عام، بما في ذلك مظاهر الحياة الدنيوية والدينية.

نماذج توثق للحياة

◙ أفخم هذه النماذج الفنية وأعظمها المجموعة
◙ أفخم النماذج الفنية وأعظمها 

ومن تلك النماذج، مجموعة تُمثل فتاتين واقفتين على جانبي السرداب وترتدى كل منهما ملابس طقسية ملونة بالألوان الزاهية، وتحمل كل منهما على رأسها سلة فيها لحم وخبز، وفى يد كل منهما إوزة حية، وقد تم نحت تمثالي هاتين الفتاتين من الخشب. وكذلك نماذج فنية تمثل صور الحياة التي كان ينعم بها صاحب المقبرة “مكت رع” في حياته الدنيوية، وهي نفس الحياة التي كان يعتقد في أنه سيتمتع بها في العالم الآخر بعد وفاته.

وتدلنا كتب الآثاريين وعلماء المصريات على أن أفخم هذه النماذج الفنية وأعظمها المجموعة التي يظهر فيها صاحب المقبرة "مكت رع" وهو يحصى ماشيته. وهناك أيضا نماذج توثق مشهد صناعة الخبز والجعة، وأخرى ترسم لنا صورة نساء يغزلن وينسجن في حانوت كما يُشاهد النجارون وهم يقومون بعملهم.

كما نرى في تلك النماذج الفنية ما أعده صاحب المقبرة “مكت رع” لنفسه في حياته الخاصة المنزلية فنشاهد أنه قد شيد لنفسه حديقتين جميلتين فيهما كل ما عثر عليه من الآثار المصرية التي بذل الفنان المصري القديم مجهودا كبيراً لنحتها وصنعها بدقة عالية.

يُذكر أن البر الغربي لمدينة الأقصر التاريخية في صعيد مصر يحوي بين جنباته جبانة طيبة القديمة التي تضم مئات المقابر التي نحتت في الصخور لملوك وملكات ونبلاء ونبيلات مصر القديمة، بجانب عدد كبير من المعابد الجنائزية لعدد من الملوك والملكات مثل معابد حتشبسوت، وامنحتب الثالث، وسيتي الأول ومسيس الثاني وغيرهم.

12