"مقام إبراهيم وصفية".. أسطورة عشق خالدة ثمنها الحياة

دمشق – يقدّم المسرح القومي في سوريا في عرض متجدّد مسرحية “مقام إبراهيم وصفية” التي كتبها وليد إخلاصي منذ عقود وسبق وأن قُدّمت مرارا على خشبات المسرح السوري والعربي. كانت أولاها عام 1996 من إخراج محمد طيلون، كما قُدّمت في الدراما التلفزيونية السورية من خلال مسلسل كتبه محمد أبومعتوق وأخرجه فهد ميري عام 2008. وهي أحد أهم الآثار الأدبية التي كتبها وليد إخلاصي.

يدخل نص “مقام إبراهيم وصفية” منطقة شديدة الوعورة، وهي السجال والصراع القائم بين الفكر المتشدّد والفكر النيّر من خلال  قصة حب بين شاب يتيم “إبراهيم” و”صفية” ابنة شيخ الحي وصاحب الفكر النيّر.

شهيدا الحب

إبراهيم جاء إلى الحي يتيما مشرّدا يبحث عن مأوى يضّمه، فلاقى عند أهل الحي السكن والمحبة، وعمل أجيرا عند الفران. وفي الحي فتاة تضجّ جمالا وأنوثة اسمها صفية وهي ابنة الشيخ صالح إمام الحي.

تنشأ بين الشاب والفتاة علاقة حب صادقة، لكن خشية أن يعلم أهل الحي بعلاقتهما كانا يلتقيان خلسة عند المقام، وذات يوم يعلم أحد زوّار المقام بقصتهما وهو مرزوق الشخص البسيط الساذج صاحب الفكاهة والدعابة.

وفي حدث متواز، يعود شخصان من رحلة الحج، وهما أبوالروس زعيم الحي، وأبوالكيف تاجر المخدرات والخارج عن القانون. ويفصح أبوالروس عن نيّته الزواج بامرأة رابعة وهي صفية، لكن رغبته تلك تصطدم برغبة أبوالكيف لكي تكون صفية زوجته الثانية، ليبدأ الصراع العلني بينهما والذي يحل أخيرا بإجراء قرعة بينهما حيث يربح أبوالروس.

يتجه الأخير إلى الشيخ صالح ويطلب يد ابنته للزواج، لكن الشيخ المُستنير يرفض طلبه، لأن الفتاة صغيرة وهو ممّن لا يحبّذ زواج ابنته من رجل متزوّج، فيغضب أبوالروس ويصرّ على الانتقام.

وفي تقاطع في الأحداث، يخبر مرزوق أبوالروس بحقيقة علاقة صفية وإبراهيم، ويقرّر أبوالروس استغلال الفرصة ليفضح أمرهما. ويحدث ما لم يكن في الحسبان، إذ تتحالف قوى الشرّ التي كانت متصارعة في ما بينها أبوالروس وأبوالكيف ضامة إليهما قوة الأمن وهو رجل الشرطة وكذلك مختار الحي، ليحاكموا الشيخ صالح وابنته على الجريمة الأخلاقية المختلقة التي اقترفتها ابنته، حسب زعمهم.

وتتم المواجهة، فيرفض الشيخ التهمة، لكن الشاهد الملك وهو مرزوق موجود ويخبر الشيخ بالحقيقة. تسمع الفتاة التهم فتخرج على القوم كاشفة كل الأمر وأنها تحب إبراهيم فعلا، لكنهما لم يتجاوزا حدود الصواب وهو يُزمع طلب الزواج منها من أبيها.

تُلزم الحجة الشيخ صالح ويندفع تحت ضغط المجتمع لمحاسبة ابنته صفية التي تقدّم نفسها فداء له لو كانت مخطئة، يمسك الوالد بالسكين ويهمّ بذبحها لولا تدخل إبراهيم الذي يفديها بنفسه. ويقع الشيخ في حيرة من أمره، ويصارحه إبراهيم بحبه لصفية حبا حلالا ويريدها زوجة له. تغلب عاطفة الأب وفكره المستنير، فيقرّر تزوجيهما في ذات الليلة ويذهب لإعداد الأمر.

في الأثناء يكون أحد العسس من جماعة أبوالروس قد علم بالمسألة نتيجة مراقبته الأمر خلسة وينقل له الخبر، فيقرّر الانتقام بنفسه، ويدفع طغاته لكي يحاصروا المقام الذي اختبأ فيه إبراهيم وصفية، ويطلقون النار عليهما فيموتان داخل المقام شهيدي الحب الطاهر.

توليفة عصرية

يقدّم العرض في مقولته النهائية ما هو أبعد من قصة الحب التي جمعت بين شاب وفتاة، فالعرض قدّم تشريحا واقعيا حياتيا عن مجتمع تسوده حالة تلاقي المصالح بين المال والسلطة وكهنوت رجال الدين، والتي تفرز في المجتمع شرا يحيط بكل من يقف في وجه مطامحها.

ففي العرض تلاقت مصالح الضدّين أبوالروس زعيم الحي صاحب السلطة وأبوالكيف تاجر المخدرات ورجل الشرطة الذي دبّر لإبراهيم تهمة حيازة المخدرات ومختار الحي الذي هو صدى صوت هؤلاء جميعا. وضمن هذه الشَّرطية قدّم العرض إسقاطا بشكل أو بآخر مع واقع معيش وعصري يمكن أن يكون موجودا في العديد من البلدان. فهناك المتشدّدون الذين لا يتوّرعون عن قتل أي مخالف في الرأي، ويتحالف معهم المال وتجار المخدرات الذين ينشطون في هذه الحقبة، ويشكّلون قوى اجتماعية تعيث فسادا في المجتمعات التي تكون فيها.

وفي العرض قراءة لما يولّده تحالف قوى الشر من أضرار على الناس ليس في قصص الحب التي يعيشونها فحسب، بل حتى في شؤون حياتهم العادية، حيث يسود الظلم وسطوة الشر ويغيب السلام في حياة الناس.

ومن الشخصيات الإشكالية التي قدّمها العرض شخصية مرزوق، والتي أدّاها مخرج العمل زيناتي قدسية بما تحمله من قيم إنسانية واجتماعية. فبقدر ما تحمله الشخصية من بساطة وسذاجة وقدرة على طرح الطرافة في المجالس، فإنها تحمل في الوقت عينه مخاطر على حياتها ومجتمعها عموما، لإمكانية استغلالها من قبل قوى الشر في الوصول إلى مآرب دفينة.

شخصية مرزوق كانت محورية في سياق العمل ومحركا لأحداثه، فمنها عرف أبوالروس قصة حب إبراهيم لصفية، وهي الشخصية التي دفعت ثمن موقفها الصادق من الشيخ صالح الذي تعارض مع موقف قوى الشر لاحقا. وكأن هذه الشخصية تمثل معادلا لشرائح عريضة من الناس في كل المجتمعات البسيطة التي يسكنها التخلف، بحيث تكون بعفويتها وبساطتها سببا في بؤسها وشقائها.

والعرض الذي قدّم على المسرح القومي بدمشق من تأليف وليد إخلاصي وإعداد وإخراج زيناتي قدسية، وتمثيل كل من محمود خليلي ويوسف المقبل وجمال نصار وصفاء رقماني وقصي قدسية ويوشع محمود وسامر الجندي وعلاء الشيخ، إضافة إلى زيناتي قدسية في دور مرزوق.

وحفل التراث العربي بالعديد من حالات الحب التي تخلّد قصصا ظلت متناقلة جيلا عبر آخر. ففي الشعر العربي ظهرت قصة حب شهيرة بين قيس بن الملوح وليلى العامرية، ولم يسمح والد ليلى بزواجهما ممّا أصاب قيس بالجنون، فسمي بمجنون ليلى وعاش شريدا وألّفت عنه العديد من الآثار الأدبية.

كذلك كان هنالك جميل بن معمر الملقب بجميل بثينة الذي فتن بفتاة في قبيلته هي بثينة بنت حيان بن ثعلبة، لكنه منع من الزواج منها، وقال فيها كثيرا من الشعر. وكذلك عرفت قصة حب لشاعر كبير هو كثير بن كثير بن عبدالرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر الخزاعي الذي أحب عزة حبا شديدا ومنع من الزواج منها. لكنه ظل وفيا لحبه وهائما بها حتى بعد زواجها من غيره، فما كان منه بعد علمه بزواجها وارتحالها إلى مصر إلاّ أن رحل وراءها وعاش في مصر على مقربة منها حينا من الزمن.