"مغتربون".. دراما قصيرة عن اللجوء وغربة السوريين جسدا وفكرا

الواقعية تعيد للدراما السورية حضورها عربيا واضعة إصبعها على آلام المجتمع.
الخميس 2024/08/15
نقاشات عن قضايا مهمة في المجتمع السوري

كيف تغيرنا الحرب ببطء وعمق؟ وكيف نضطر إلى اللجوء بطرق قانونية أو غير قانونية؟ وكيف نتجاوز مقابلات اللجوء السخيفة والموجعة؟ كلها أسئلة يتطرق إليها مسلسل “مغتربون” الذي يخوض بواقعية مفرطة في المجتمع السوري محاولا طرح مقاربات وإجابات على أفكار وفرضيات كثيرة تهم السوري الناجي من الحرب.

من الهجرة أنواع متعددة إما تهاجر لمال تجمعه، أو نفوذ تبنيه، أو تهاجر لشيء آخر. هذه الفكرة العامة التي يناقشها مسلسل “مغتربون” السوري الذي يسلط الضوء على اللجوء واللاجئين السوريين، وأيضا على الغربة التي لم تعد تقتصر على هجرة الأوطان وإنما الغربة الفكرية والجسدية التي يعيشها الكثير من السوريين داخل بلادهم.

هذا العمل الذي يعد من أول المسلسلات السورية القصيرة، طرحته منذ أسابيع قليلة منصة “1+1” ويعود به كاتب السيناريو نجيب نصير بالشراكة مع رامي عمران إلى الدراما بعد انقطاع طويل، ويشرف على تنفيذ العمل الليث حجو، وهو من إخراج عمار العاني وتمثيل كل من أيمن عبدالسلام ولجين إسماعيل وريام كفارنة وسهير صالح.

يبدأ العمل الذي لا يتجاوز زمن الحلقة الواحدة فيه 6 دقائق، بلازمة واحدة، يقدمها صوت إحدى بطلاته وهي تقدم لنا نشرة إخبارية ورد فيها “12 سنة من الحرب، 7.2 مليون نازح، 1300 خيمة، مليونا نازح في المخيمات، 6.5 مليون لاجئ.. عدد النازحين السوريين في الداخل والخارج يقدّر بـ13 مليونا… هذه ملفّات ثلاثة منهم”، ثم تظهر لنا صورة الملفات الثلاثة ونكتشف مع مرور الحلقات أنها تتعلق بالشاب فؤاد (أيمن عبدالسلام) وزوجته داليا (ريام كفارنة) يضطران إلى اللجوء إلى بيت شقيقها هيثم (لجين إسماعيل) بعد أن تتعرض حارتهما للقصف ويدمر بيتهما، ومنذ وصولهما إلى السكن عند أخيها تبدأ النزاعات والنقاشات الحامية التي تكشف لنا عن انقسام حاد في الآراء.

ومع توالي الحلقات، تحملنا النقاشات في كل حلقة إلى موضوع إشكالي يحاول الممثلون مقاربته وطرح فرضيات له، تمثل كل فرضية شريحة واسعة من المجتمع السوري، وتأخذ كل حلقة عنوانا للسؤال الإشكالي حيث ينطلق المسلسل بعنوان “النزوح” ليمر على “أبغض الحلال” و”خيانة افتراضية” و”اختلاف” و”طابو” و”السهرة” و”تغيير رأي” و”الرزقة” و”هجرة” ومواضيع أخرى شائكة تطرق إليها المسلسل ولا يزال نظرا لاستمرار عرضه.

"مغتربون" عمل درامي واقعي وبسيط يناقش مواضيع عميقة مراهنا على حوار جيد وممثلين موهوبين

إنها جميعا مواضيع شائكة لا تزال تؤثر في المجتمع السوري وتظهر تناقض أفراده أحيانا وغربة بعضهم ممن يرفضون الأمر ويدعون إليه أو يريدون الهجرة ولا يريدون الالتزام بقوانين المجتمعات المدنية.

من هذه المواضيع نذكر الزواج المدني والعنف ضد المرأة، ومدى ارتباط المرأة بالعار والشرف العائلي، والعنوسة والطلاق، والمشاهد الساخنة في الدراما، والرشوة وانقطاع الكهرباء والماء، والإنجاب زمن الحرب، وارتفاع الأسعار والأزمة الاقتصادية والفكرية وحتى الدينية والإبداعية. وأبطال المسلسل هنا يخوضون “حرب” نقاشات حادة في كل حلقة، نستخلص منها أن هناك واحدا من الثلاثة يسعى لتجميل ما يخدم مصلحته الشخصية بابتكاره مسميات وتبنيه نظريات تبرر أفعاله وآراءه الخاطئة مثل الديمقراطية والإسلام والرجولة والسلطة الذكورية وغيرها.

“أبي كان عم يدخن وأنا كنت بدخن وأبي بيعرف بس ولا مرة دخنت قدام أبي.. هيك تربينا، في حرج اجتماعي من هيك مواضيع”، والحرج الاجتماعي الذي يناقشه المسلسل يتعدى فكرة الحرج من التدخين أمام الأب إلى الحرج في تبني أراء ومواقف تتعارض مع المجتمع الأبوي عامة والسلطة الذكورية، كأن يمنح الشاب لنفسه حق الزواج المدني والزواج بامرأة من غير دينه لكنه يرفض أن تفعل أخته ذلك، ويتقبل أن تشاركه أخته منزل الوالدين لكنه يرفض أن تشاركه الميراث.

ويذكرنا “مغتربون” في كل حلقة بأن الأبطال الثلاثة تمكنوا من الهجرة – كل بطريقته – إلى أوروبا وهم يسردون علينا بتقنية الفلاش باك (الاسترجاع) ما حصل قبل ذلك، لنكتشف أنهم يخضعون لجلسات نقاش مع محامية بغية منحهم الحق في اللجوء الإنساني.

هذا العمل الدرامي واقعي جدا حيث يبتعد عن البهرجة التي غيرت شكل الدراما العربية والتي تناست الحديث عن الطبقة المتوسطة

وتكشف الحوارات العميقة والبسيطة بين الشخصيات – كل على حدة – مع المسؤولة عن ملفاتهم، مدى التناقض الصارخ الذي يعيشونه، فكل واحد منهم لا يريد أن يعلم الآخر بوجوده في الدولة نفسها والمكان نفسه، حتى الزوجة لا ترغب في أن يعرف زوجها بوجودها مع ابنتها ذات الست سنوات التي لا يعلم أيضا بولادتها.

يحاول كل واحد منهم تجميل ذاته قدر المستطاع ليقنع السلطات بمنحه حق اللجوء، لكنهم برغبتهم في عدم معرفة الآخر بهم يقعون في فخ كبير ألا وهو تناقض الروايات فما يحكيه هذا يتضارب مع ما يحكيه الآخر.

هذه الحوارات، تضعنا أمام لحظة زمنية فارقة عاشها الآلاف من السوريين بحثا عن اللجوء كما عاشها آلاف آخرون من دول عربية أخرى، مقابلة اللجوء ولحظة البروتوكولات الرسمية والبيروقراطية الغربية التي تؤجل منح الإنسان حقه في اللجوء حتى يجيب عن أسئلة عديدة ويقنع مستجوبه.

مقابلات متكررة، تضع الهارب من جحيم الوطن أمام استجواب يفرض عليه الإجابة عن أسئلة لا يريد الإجابة عنها والخوض في مواضيع يتمنى لو ينساها. إنها تجسيد درامي واقعي لمقابلة يعرفها الكثير من اللاجئين ولا تغادر ذاكرتهم، مقابلة مصيرية تغيرت معها حيواتهم بعد أن حولتهم إلى مجرد ملفات وأرقام تدرس بعناية وجردتهم من آخر ملامح إنسانيتهم وأدخلتهم عنوة في خانة الكذابين والمزيفين للحقائق بحثا عن حياة أفضل وخوفا من إعادتهم قسرا إلى أوطانهم.

هذا العمل الدرامي واقعي جدا، حيث يبتعد عن البهرجة التي غيرت شكل الدراما العربية والتي تناست الحديث عن الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التي تعد الشريحة الأكبر في سوريا وغيرها من الدول العربية، وهو يحاول من خلال هذه العائلة الصغيرة ومتوسطة الحال أن يستعرض هموم المجتمع ويقدم مشاكلها على أنها نموذج مصغر للنسبة الأكبر من العائلات السورية وكل التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي طرأت عليها خلال العقد الماضي.

ولأنه يهتم بطبقة متوسطة، جاء ديكور العمل شديد الواقعية، مبتعدا عن عنصر الإبهار واستعراض الثراء، حيث يقتصر على موقعي تصوير داخليين، هما المنزل ومكتب اللجوء. في حين ركز صناع المسلسل أكثر على قوة السيناريو والحوار وأداء الممثلين الذي يتصاعد ويتحرك بتصاعد حدة الحوار بينهم.

13 عاما عاشت خلالها سوريا على وقع الحرب، فتضررت الدراما السورية وأوشكت على أن تفقد بريقها ومواكبتها لتطورات الإنتاج الفني في المنطقة العربية، وبعض شركات الإنتاج فيها اتجهت نحو الأعمال العربية المشتركة وبعض النجوم اختاروا الأعمال التركية المعربة التي لا تقدم مقاربات واقعية للمجتمع السوري أو المجتمعات العربية عموما، لكن يمكن القول إن “مغتربون” الذي يأتي على شكل كبسولة درامية قصيرة، يبشر بعودة الأمور إلى نصابها وبوجود جيل شاب أدرك أهمية عودة الإنتاج السوري الذي لطالما أقنعنا بمقارباته الواقعية الصادقة للمجتمع وللقضايا الإنسانية الكبرى، رغم قلة الإمكانيات المادية.

“مغتربون” هذا العمل الدرامي الواقعي والبسيط الذي يناقش مواضيع عميقة مراهنا على حوار جيد وممثلين موهوبين خطوة واعدة نرجو أن يستثمرها السوريون لإنتاج مسلسلات قصيرة واستعادة مجدهم في الدراما الواقعية التي توثق وتروي حكايات المجتمع والتغيرات المهمة التي لحقت به جراء سنوات الحرب. والحرب مما لا شك فيه مأساة لا يرجوها أي بشري سوي وتلحق بالمجتمعات أضرارا لا تحصى ولا تعد لكنها تخلق في المجتمعات مادة خصبة بالإمكان الاشتغال عليها وتحويلها إلى أعمال درامية خالدة.

14