مع ما يحدث في غزة.. الشارع العربي يعيد استدعاء الكليشيهات الثقافية

الأدب والفن الملتزمان أفسدا ذائقة أجيال بأكملها.
الخميس 2023/10/26
الحماسة تضعف القيم الجمالية للفن

كثيرا ما تتردد في أغلب البلدان العربية تسمية "الفن الملتزم" أو "الأدب الملتزم"، وتخصص له أحيانا تظاهرات ومهرجانات، لكن ورغم نبل الرسالة فإن كثيرا مما ينجز تحت هذا المسمى لا يرقى إلى درجة فن أو إبداع، بل هو مجرد خطابات سياسية جوفاء. قد لا يطيق المزاج العام نقدا من هذا النوع، لكن لنتأمل مليا ما ينجز تحت لافتة الالتزام من فنون.

أمام موجات التعاطف الجماهيرية في العالم العربي مع القضية الفلسطينية المركزية، عقب أحداث غزة، يقع اليوم استدعاء ما يعرف بالفن المقاوم والأدب الملتزم، يُنفخ في بعض “الكليشيهات الفنية” القديمة المكررة ليتم استخدامها على سبيل المؤازرة والتضامن.

ما تعانيه الثقافة الفلسطينية المعاصرة كثير الالتباس والتعقيد، فبعضه يأتي من أبنائها الذين لم يغادروا “دفاتر الأدب الملتزم” في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، دون أن يضيفوا إليها شيئا، وبعضها يتأتى من “أبناء العمومة العرب” الذين أبوا إلا أن يسجنوا الإبداع الفلسطيني في تلك الأقفاص، أما السبب الإشكالي والجوهري فهو واقع الحال الذي يتحمل فيه المحتل جزءا من المسؤولية.

وفي هذا الصدد، كان الشاعر محمود درويش ينبّه في كتاباته عن الاعتداءات الإسرائيلية من مغبّة ما يمكن أن يلحق بالمشهد الثقافي الفلسطيني من تشوه، ويحمل المحتل مسؤولية ضعف الخطاب الفني الذي قد يصيب اللوحة والأغنية والقصيدة. كيف ذلك؟ يقول قائل، وهل من علاقة بين قمع الاحتلال وضعف الخطاب الفني وعدم قدرته على الارتقاء بأدواته نحو ما تهدف إليه الثقافة عموما من إشباع للقيم الجمالية المهذبة للنفوس والناهضة بالمجتمعات.

◙ الفن رسالة قبل كل شيء
◙ الفن رؤية الواقع بغير عيون الواقع ونظر إلى الأشياء بعيدا عن استعمالها الأول والإنسان المقهور تعوزه هذه الميزة

الجواب يبدو في منتهى البساطة والانسيابية في المنطق والتحليل، وهو أن الأمزجة المكدرة والعقليات المعكرة والمشغولة بكل وسائل القمع والحرمان، لا يمكن لها أن تنتج أدبا رفيعا وفنا راقيا يسموان فوق الغرائز والانفعالات. صحيح أن مظاهر القهر وحالات المعاناة والوجع الإنساني، تفرز أشكال تعبير غريزية كثيفة وحارقة، لكنها لا تخرج من حسها الانفعالي ولا تغادره نحو البحث عن طرق تعبير مبتكرة.

المقهور يتجه بطبيعته، نحو التعبير عن أزمته بالسباب والتوعد بالرد والانتقام، ولا يعرف إلى غير ذلك سبيلا. المقموع والمبعد والمعتقل يجنح كل منهم إلى الحلم بالحرية والعودة والانعتاق، لكن كل ذلك ليس كافيا لإنتاج منجز إبداعي ينافس المقاييس العالمية، إن كان للإبداع من مقاييس.

لا تحتاج النفسية المحطمة في معرض تعبيرها عما تعيشه، إلى التورية والمواربة والبحث عن أدوات تعبير مبتكرة، بقدر ما تبحث عما يقول اختلاجاتها وهمومها. والفن في أبسط تعريفاته هو رؤية الواقع بغير عيون الواقع، والنظر إلى الأشياء من حولنا وقد تجاوزت بعدها الاستعمالي الأول، لكن الإنسان المقهور تعوزه هذه الميزة فيمسي ناقلا لما يعيشه أو يحسه دون تدخل من الخيال، الذي لا يمكن الحديث عن عمل فني من دونه.

وبالعودة إلى القضية الفلسطينية في الشعر والثقافة العربية، فلقد كان محمود درويش صائبا في تحذيره من أن المعتقلات تصنع مناضلين ومثابرين يحفظون لفلسطين ألقها، لكنهم لا يساهمون في نحت هويتها الثقافية.

وهذا الإشكال الفني بدأ يدركه جيل الرواد من الذين طرقوا القضية في شعرهم كفدوى وإبراهيم طوقان وعلي محمود طه وغيرهم فنبهوا إليه وحذروا من الوقوع في المباشرة، وما يترتب عليها من صراخات حماسية وشعارات سياسية. امتلأ ديوان الشعر العربي بمطولات حماسية تفيد بجعل جذوة الحلم متقدة، لكنها قد لا تخدم تطور الشعر بالضرورة ليتقدم “الوطني” ويتراجع “الشِّعري” بفراسخ وأميال، كما يؤكد الباحث مؤمن سمير في إحدى الندوات.

ويؤكد الباحث أن التناول الشعري الحماسي لقضية العرب المركزية هو صاحب الرقعة المتسعة على الصفحات وبين الجماهير، متابعا بقوله “لكني أوقن دوما بأن الانتشار لم يكن أبدا هو شرط الجمال والقيمة”، ويضيف أننا سنظل نستمتع بكبار الشعراء الذين امتصوا الحدث وغمسوا ريشتهم لوجه الشِّعر الباقي، لا لحساب المظاهرات متعددة الأشكال والوجوه.

◙ مظاهر القهر والوجع الإنساني تفرز أشكال تعبير غريزية كثيفة وحارقة لكنها لا تخرج من حسها الانفعالي ولا تغادره

ولا ينطبق هذا الأمر على القصيدة وحدها بل يتعداها إلى كافة أنواع التعبير الفني التي تتهددها الحماسة وتضعف من قيمها الجمالية. يبدو هذا واردا ومتوقعا لدى ما يعرف بالأدب المقاوم في شتى أنحاء العالم، من أميركا اللاتينية وأفريقيا وحركات التحرر في آسيا، لكن ما جعله متفاوتا من حيث الجودة الفنية هو حضور الزخم الشعبي، وارتفاع أو انخفاض مستويات التعليم والثقافة.

والشعب الفلسطيني يعد من أكثر شعوب العالم الثالث حظا في التحصيل العلمي وانخفاض نسب الأمية بفضل منظمات الغوث الدولية.. وتلك مفارقة عجيبة تثير بعض السخرية في عالمنا العربي. المشكلة أن ما يعرف بالأدب الملتزم والفن الملتزم اللذين سادا بعد هزيمة 67 وازدهرا إلى درجة أنهما أفسدا ذائقة أجيال بأكملها، خصوصا لدى ضعاف الموهبة من الذين ركبوا هذه الموجة ولم ينزلوا منها إلى حد الآن.

وما يزيد الطين بلة، هو تعسف الجماهير و”دكتاتوريتها” في الانتصار لأعمال وأناشيد حماسية، لكن غالبيتها رديئة بمفهومها الفني، وللأسف الشديد. هذا الأمر ليس غريبا، ومعروف وقديم قدم الظلم واستعمار الشعوب عبر التاريخ، لكن بالإمكان تفاديه أو تحسينه على أقل تقدير.

الواقع أن الحماسة الزائدة، كثيرا ما تكون العدو اللدود لكل ذائقة فنية راقية، وتكرّس ما ترتئيه الجماهير العريضة من غضب يؤدي إلى الصراخ والوقوع في بلادة ديماغوجية تشبه أحيانا خطاب الجماعات الأصولية ممن يسمون أنفسهم بـ”الفرقة الناجية” أي تلك التي تخال نفسها أبدا، على حق.

◙ الفن رسالة قبل كل شيء
◙ الفن رسالة قبل كل شيء 

13