معرض باريسي يستعرض محاولات الإنسان في التحليق وتجاوز حدود السماء

ما زالت رغبة البشريّ أن يكون مُعلقا في الهواء محطّ جهوده المختلفة، سواء كانت فنيّة أو أدبية أو علميّة، فحلم أن يتحرك الفرد دون أن تلامس قدماه الأرض، انعكاس لرغبته بالانعتاق من الأرضي، سواء كان ذلك بالطيران كما في أفلام الخيال العلمي، أو طفوا كما يقوم بذلك السحرة ولاعبوا الخفة، أو تحليقا كما في الاختراعات الحديثة التي تسعى لجعل الآلة امتدادا لجسد الإنسان وتتيح له تجاوز العوائق “الأرضيّة”، بل حتى مغادرة الكوكب بأكمله، وكأن الإنسان أسير لعنة جعلته أرضيا منفيا من موطنه السماويّ.
تستضيف صالة “البيت الأحمر” في العاصمة الفرنسية باريس معرضا باسم “التحليق، الحلم بالطيران”، الذي عمد منظموه الأربعة على جمع ما يقارب 200 منتج فني تتناول حُلم الطيران، لا المحاولات التي نجحت بل تلك التي بقيت أسيرة الخيال أو باءت بالفشل، فالصور واللوحات والفيديوهات والمخطوطات والمنحوتات التي يحويها المعرض تنتمي إلى مختلف الحقب والأجناس، سواء كانت أعمالا معاصرة أم مجرد اختراعات فاشلة في محاولة لعكس مفهوم الحلم ذاته بوصفه هشا و”لا يصدّق” وأحيانا غير مكتمل.
يثير المعرض مخيلة المشاهد، ويستدعي الأحلام الطفوليّة بالتحليق عاليا واستكشاف ما وراء سمائنا، إذ نشاهد مثلا رسومات فيلم “رحلة إلى القمر” للمخرج الفرنسي الشهير جورج ميلياس، فاللوحات العشر التي استخدمها ضمن الفيلم عام 1902 تعكس الخيال البشريّ عن عوالم الطيران واكتشاف مساحات سماويّة جديدة، كما نشاهد صورا فوتوغرافيّة عن موضوعة التحليق، سواء التقطها مصورون مجهولون أو تلك التي نرى فيها شخصا يحاول القفز محلقا من أعلى سطح منزل، كما في صورة تعود إلى عام 1960 التقطها الفرنسي إيف كلان بعنوان “سقطة في الفراغ”، وكأن عجز الإنسان عن الطيران، تركه أسير محاولات التقاط لحظات من الطفو، يكون فيها معلقا على وشك السقوط، لتكون الصورة لحظة انتصار وهميّة على الجاذبيّة.
نشاهد في المعرض تراث الطيران والتحليق الذي يحضر في الأدب، إذ نرى صورة للفنان أورس لوثي على بساط قماشي، في استعادة لبساط علاءالدين الطائر، كذلك نشاهد التراث الديني في عمل تجهيز لكل من إليا وإيميلي كاباكوف بعنوان “كيف يمكن للشخص أن يغير ذاته”، والذي نرى فيه جناحي ملاك موضوعين على كرسي، فالطيران هنا لا يحضر فقط بالمعنى الحرفي بل المجازي أيضا، فأمام الجناحين ورقة فارغة متروكة لأجنحة الخيال.
نشاهد أيضا المحاولات المختلفة لاختراع آلات للطيران، سواء كان ذلك ضمن سياق علميّ أو فنيّ، ككتاب فنّي للأميركي تشارك أوغيس ألبيرت ديلشو، الذي يحوي رسوما تعود إلى عام 1921 أشبه بمخطوطات متخيّلة لتجارب فنية لاختراع آلة طائرة، في ذات الوقت نشاهد الأبعاد السياسيّة لاستعمار السماء، ففي منحوتة لفرنسوا بولاند باسم “صاروخ سوفيتي” يحاول الفنان استعادة تاريخ السباق نحو الفضاء، والذي شغل الساحة السياسية أثناء الحرب الباردة، فالسيطرة على الفضاء تعني الهيمنة الكليّة على ما هو “أرضي”.
الأعمال في المعرض كثيرة ومتنوعة، وتحاول دوما أن تحيلنا إلى “أعلى”، لنستطيع عبرها تلمس الفرق بين “الطيران” و”الطفو” و”التحليق”، فكل منها ينتمي إلى مساحات من التجريب الفنيّ والعلمي وأحيانا الخرافات الشعبيّة، وفي كل منها نتلمس رغبة بالانعتاق من قيود الجسد وحدوده، وفي ذات الوقت تطلعا نحو مستقبل ما، نحو لحظة نتغلب فيها على قوانين نيوتن، لتتغير حتى صورتنا عن أنفسنا كأفراد، كما نرى في كائنات هنري دارغر، التي تنتمي إلى عشرينات القرن الماضي، وفيها يعيد تصميم شكل الجسد البشري، لنرى كائنات ذات أجنحة ومجسّات قادرة على الارتقاء عاليا، متجاوزة الشكل البشريّ الأرضي العاجز حتى عن الطفو لثوان.