معرض باريسي يتناول الظاهرة البشرية وعلاقتها بالنار

لا يمكن الحديث عن النار دون مقدمات شعريّة وسرديّة، واسترجاع لتاريخ الأساطير والحكايات المختلفة، التي لا يمكن حصرها، فالإنسان حتى الآن مدين للنار، فلحظة اختراعها، شكّلت انقلابا نوعيّا في تاريخ البشريّة، ونقلت الإنسان من بدائيته، نحو الحضارة بمعناها الواسع، وحوّلت الكائن البشريّ إلى سيّد للكوكب، إذ مكّنته من تحويل عناصر الطبيعة والتلاعب بها، وتطويعها لخدمته، وعلى النقيض، تشكّل النار أيضا امتدادا لسلطة الخوف، سواء كانت طبيعيّة أو أسطوريّة، كونها محرّك الجحيم والخراب، هي التي تلتهم ولا تشبع، وقادرة على ابتلاع كل ما هو موجود.
تشهد مدينة العلوم والصناعة في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضاً باسم ” نار”، وفيه نتعرّف على تاريخ النار والجوانب المختلفة من استخدامها، إلى جانب علاقتها مع البشريّ، فطبيعيا، النار تسبق وجود الإنسان، أما هو، فقد اكتشف آلية تكوينها واستثمارها، إذ ترافق التطور العلميّ مع توظيف النار كشكل من أشكال الطاقة، التي يمكن نقلها وإنتاجها بضغطة زر، ويسعى المعرض عبر سلسلة من الصور وأعمال التجهيز والفيديوهات المختلفة، إلى تعريفنا بتحوّلات النار، وجعل تاريخها أقرب إلى رحلة اكتشاف لتاريخ البشر نفسه.
نشاهد في القسم الأول من المعرض، اللحظات الأولى لاكتشاف النار، منذ حوالي الـ400 ألف عام، عبر مجموعة من الأدوات والدلائل الأثرية على جهود البشر لتدجينها واحتوائها، والتحكم بأوقات استخدامها، سواء في الحياة المنزلية، أو ضمن المعارك في سبيل الانتصار على الآخر، حيواناً كان أم بشراً، كما نتعرف على الأغراض البدائيّة التي كانت النار سبب وجودها، كقدور الطهي وأوعية التسخين، ونتتبع التغيرات الاجتماعيّة التي سببتها النار، ودورها في خلق علاقات بين البشر، الذين يجتمعون حولها، ويتناوبون على حراستها، وحمايتها من الانطفاء، لتتحول إلى محرك للنشاط البشريّ، وإلى سبب لنشأة وتقسيم أدوار العمل.
بعد أن تحوّلت النار إلى جزء من حياة البشر، نرى في القسم الثاني من المعرض الجهود العلمية لفهم النار، والتساؤلات التي طرحت في القرن الثامن عشر، لفهم طبيعة تكوينها الفيزيائيّ، وتحديد التفاعلات الكيميائيّة التي تؤدي إلى نشأتها، وهذا ما نراه عبر عرض بصري تفاعليّ، يمكّن الزائر من مراقبة تكوّن شعلتين مختلفتين، ليتعرّف على العناصر الكيميائيّة التي تكوّن كل منها، وتحديد الاختلاف بين نوعي الاحتراق، كذلك نرى كيف تم توظيف النار في العلوم، إذ تحوّلت طاقتها إلى وقود لتشغيل الآلات مختلفة الأحجام، سواء كانت محركات تعمل على الفحم، أو شعلة بسيطة، تمكّن العالم من إتمام تفاعل كيميائي، فالنار طاقة تساهم بإعادة التكوين الذريّ للعناصر، والتحكّم بخصائصها الماديّة.
يجذب الانتباه في القسم الثالث من المعرض، عمل تجهيز لمطبخ منزلي محترق، ليكون بداية لفهم الجهود البشرية للوقوف بوجه النار، فهي تختزن داخلها احتمالات الخراب، إذ نشاهد التكنولوجيا المختلفة التي طورها البشر لاحتوائها، والتي توظف الماء كالأسلوب الأول لإخماد النار، وقطع الأوكسجين عنها، ثم نتتبع كيف استعان العلماء ورجال الإطفاء لاحقا، بأساليب أخرى مختلفة عن الماء، كونه وسيلة لإشعال النار ضمن بعض التفاعلات الخاصة، كذلك نتعرف على الجهود الجنائيّة المختلفة لفهم ما بعد النار، إي محاولة دراسة آثارها ومسبباتها ضمن الحياة اليوميّة.
كما يتيح أحد أعمال التجهيز للمشاهد اختبار تأثير الحريق، إذ يدخل ممرّا يحاول فيه الهرب من نار اصطناعيّة، مُختبرا أثناء ذلك على مجموعة من الخطوات الاحترازيّة لحماية نفسه من الخطر، كما يُدعى الزائر أيضا إلى تجربة بزة إطفائيّ، ليكتشف مكوّناتها وكيفية مقاومتها للنار، متلمساً بشكل شخصي أهميّتها، بوصفها الخط الفاصل بين الحياة والموت في الكثير من الأحيان.