معجب الزهراني: الخطاب الفكري المغاربي أكثر امتلاكا لشروط الكتابة الفلسفية

المفكر والكاتب السعودي يؤكد وجود فكر نقدي جيّد في مجمل بلداننا لكنه لا يؤثر كثيرا خارج دائرة النخب المثقفة لأن الخطابات الرسمية المهيمنة.
الأربعاء 2020/02/19
لغة الخوف لا تنتج سوى المزيد من المخاوف

حين نتأمل في المشهد الثقافي والفكري في المملكة العربية السعودية على مدى العقود الثلاثة الماضية، فإن المبدع والأكاديمي معجب الزهراني يلفت انتباهنا من النظرة الأولى لما يتميز به من غزارة في الإنتاج على المستوى الأكاديمي والفكري، كما على المستوى الإبداعي. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الزهراني حول أهم القضايا الثقافية والفكرية الراهنة.

المفكر والكاتب معجب الزهراني القادم من قرية سعودية صغيرة في منطقة خضراء لا يزال متعلقا بها وبأهلها إلى حد هذه الساعة، وبها بنى بيتا حجريا يفكر أن يمضي فيه السنوات الأخيرة من حياته، عاش مغامرة معرفية نادرة مقارنة بأبناء جيله. فقد دَرَسَ الفرنسية في جامعة السوربون بباريس ليكتشف خلال سنوات الدراسة فلاسفة ومفكرين حداثيين وتنويريين من أمثال ميشال فوكو، وألتوسير، ورولان بارت، وليفي شتراوس، وموريس بلانشو، وجان بول سارتر، وألبير كامو، وسيمون دو بوفوار وآخرين سوف يصبحون مراجع أساسية في مسيرته الفكرية والنقدية والإبداعية من دون أن يكون مقلّدا ساذجا ومطيعا لهم في جميع أطروحاتهم وأفكارهم.

اكتشف معجب الزهراني في فترة الدراسة الجامعية في باريس مفكرين مغاربة من أمثال عبدالله العروي، وعبدالكبير الخطيبي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط، ومحمد أركون، وبهم سوف يقتدي لينجز أطروحاته وأبحاثه ودراساته حول العديد من القضايا المتصلة بالدين والسياسة والثقافة في بلاده، وفي العالم العربي عموما.

وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه، عمل الزهراني أستاذا في جامعات بلاده. كما أنه كان عميدا لجامعة اليمامة، وأستاذا زائرا في جامعة السوربون الفرنسية. غير أن عمله الأكاديمي لم يمنعه من إصدار أعمال أدبية مهمة، بينها روايات ونصوص نقدية، وكتاب عن “صورة الغرب في الرواية العربية”، وقد صدر هذا الكتاب في ترجمة فرنسية. كما أنه أصدر مؤخرا سيرته الذاتية التي حملت عنوان “سيرة الوقت حياة فرد – حكاية جيل”، وفيها يستعرض بلغة شاعرية عذبة مراحل من حياته منذ الطفولة في القرية، وحتى سنوات النضج التي أصبح فيها أكاديميا لامعا وكاتبا مرموقا.

الخطاب الفكري في بلدان المغرب أكثر امتلاكا لشروط الكتابة الفلسفية
الخطاب الفكري في بلدان المغرب أكثر امتلاكا لشروط الكتابة الفلسفية

وقبل سنوات، عُيّنَ الزهراني نائبا للفرنسي جاك لانغ، المدير العام لمعهد العالم العربي بباريس. ويشهد الجميع، الفرنسيون كما العرب بأن منصبه هذا خول له أ ن يلعب أدوارا مهمة في التعريف بالثقافة العربية مشرقا ومغربا في العاصمة الفرنسية، مقدما صورة مشرقة عنها، وباذلا جهوده من أجل مدّ الجسور الثقافية والفنية بين أوروبا والعالم العربي. ويعود ذلك إلى اتقانه للغة موليير، وإلى معرفته بخفايا مدينة الأنوار، وبأدبائها ومفكريها وشخصياتها السياسية.

التفكيك والبناء

نتحدث أوّلا عن دوره في معهد العالم العربي وعن عمل المعهد من أجل إشعاع الثقافة العربية، فيجيب الزهراني “التحقت بالمعهد نهاية العام 2016، وكانت فرصة ثمينة لي أن أعود إلى باريس التي أحب، وأعمل في مؤسسة ثقافية كبرى وصاحبت عديد أنشطتها مذ كنت طالبا نهاية الثمانينات. ولا أخفي أن خبرتي القليلة في المجال الإداري ربما نفعتني، إذ بادرت إلى إنشاء كرسي المعهد الثقافي ما أتاح لي كأستاذ جامعي فرصة كبيرة لتحقيق مشروعين كبيرين”.

وأضاف “المشروع الأول هو مشروع مئة كتاب وكتاب عن ستين شخصية فكرية عربية وأربعين شخصية فرنسية وقد نفذناه بالشراكة مع جائزة الملك فيصل بالرياض وهو على وشك الإنجاز. والثاني هو سلسلة ندوات فكرية وتكريمات تنظم كل شهرين مرة في المعهد والأخرى في إحدى الحواضر العربية، وبشراكة دامت سنتين متواليتين مع مؤسسة الراحل محمد شحرور، وقد كرمنا شخصيات فكرية بارزة مثل إدغار موران ومصطفى صفوان وأندريه ميكيل ورشدي راشد وعبدالله العروي وهشام جعيط وحورية سيناصر وفوزية الشرفي وجوسلين دخلية وسهى شومان. وأظن أن هذا الجهد المتواضع شكل إضافة جديدة للمعهد ولذا تم التجديد لي لفترة ثانية آمل أن أواصل خلالها خدمة ثقافتنا ومجتمعاتنا في مدينة النور والتنوير، ومن خلال هذا البيت الجميل النبيل الذي أعده مكسبا حضاريا لا يضاهى”.

 وحول المشهد الثقافي السعودي في مجال الأدب والفكر، وكيف يرى الانطلاقة الثقافية التي تشهدها منطقة الخليج بصفة عامة، يقول الزهراني “لن أتوقف طويلا عند الحركة الشعرية الحديثة في المملكة لأنني قد أطيل، ولأن الشعر في جزيرة العرب هو في بيته العريق الأليف. الذي يلفت النظر ويتطلب مزيد التأمل والبحث هو الكتابة الروائية التي تشهد ربيعا متصلا منذ عقدين وأنجز ممثلوها أعمالا عالية المستوى الجمالي والدلالي، ولا غرابة أن فاز عبده خال ورجاء عالم ومحمد حسن علوان بجائزة البوكر وأميمة الخميس بجائزة نجيب محفوظ”.

الرواية الترجمان الأوفى والأكثر مرونة ومكرا لشروطها التاريخية والاجتماعية
الرواية الترجمان الأوفى والأكثر مرونة ومكرا لشروطها التاريخية والاجتماعية

ويضيف “من هنا لعلّي لا أبالغ إن قلت إن هناك تحولات عميقة في الأفق الاجتماعي الثقافي تفكك وتعيد صياغة مجمل البنى التقليدية وأن الخطاب الروائي هو الذي يواكبها ويعبر عنه بكفاءة وأكثر من أي شكل أدبي آخر. ولا يخفى على أي ناقد اليوم أن الرواية هي الترجمان الأوفى والأكثر مرونة ومكرا لشروطها التاريخية والاجتماعية، خاصة خلال فترات التحولات الكبرى التي يعيشها المجتمع ويعيها ويعانيها مثقفوه أكثر من سواهم”.

في ما يخص المشهد الثقافي بمنطقة الخليج لا يرى الزهراني أنه أقل حيوية وحراكا في السعودية، متابعا “لعل أسماء شعراء كقاسم حداد وسيف الرحبي وروائيين مثل إسماعيل فهد إسماعيل وليلى العثمان وسعود السنعوسي وطالب الرفاعي تكفي دليلا على ما أذهب إليه. أما زمن الفكر بالمعنى الفلسفي الجاد فأظنه لا يزال منتظرا حيث أن هذا الخطاب يحتاج إلى بيئات اجتماعية مدينية متفتحة ونظم تعليمية علمانية وحريات فردية متنوعة متسعة تمكن الذات المفكرة من تسمية الأشياء والظواهر بقدر كبير من التبصر والعمق والجرأة. وبلغة فلسفية قديمة أقول إن مدينة الدين والمال ليست بيئة مواتية للفلسفة”.

الفكر والنقد

خاض الزهراني في آخر كتاب له مغامرة كتابة السيرة الذاتية وهو أمر حديث العهد في السعودية. حول ردود الفعل التي قوبلت بها سيرته، التي جاءت بعنوان “سيرة الوقت حياة فرد – حكاية جيل”، يقول الكاتب “لدينا كتابات سيرية مهمة نشرت منذ نصف قرن وأكثر، وقد حررت عنها مجلدا في حوالي ألف صفحة ضمن موسوعة من عشرة مجلدات عن الأدب الحديث في المملكة. لكني لاحظت أن الذات الاجتماعية المعيارية تطغى على مجمل النصوص التي تتطلب قدرا عاليا من الشفافية والصدق مع الذات، ومنطق اِعرف ذاتك غريب نوعا ما عن مجتمعاتنا وثقافتنا العربية التقليدية التي تفضل منطق اِعرف أسلافك بحكم عتاقة بناها ومروياتها الشفويه”.

ويتابع “لعلّ هذا الوعي النقدي النظري أفادني وأنا أكتب ‘سيرة الوقت’ لأركز على تلك الذات الفردية الحميمة المتخيلة، والمغتربة بمعنى ما، لأن حكاياتها عادة ما تختلف عن الحكايات المكرسة للعائلة والجماعة الأهلية أو الوطنية، بل وعادة ما تعارض السرديات السائدة فتخلخلها وتنقضها. ومن خلال متابعاتي لردود الفعل التي تجلت في شكل مقالات ودراسات وندوات لزملاء من الوسط الأدبي والأكاديمي المحلي والعربي، أزعم أنني كسبت بعض الرهان، لكن دون أن أقارن كتابتي بأعمال شهيرة كـ’الأيام’ لطه حسين، و’خارج المكان’ لإدوارد سعيد، و’الخبز الحافي’ لمحمد شكري“.

هناك تحولات عميقة في الأفق الاجتماعي الثقافي تفكك ​
هناك تحولات عميقة في الأفق الاجتماعي الثقافي تفكك

قال الزهراني في أكثر من حوار له إنه تأثر كثيرا بالمفكرين المغاربة أمثال عبدالكبير الخطيبي، محمد عابد الجابري وعبدالله العروي بشكل خاص.

عن هذه التأثيرات وإن كانت موجودة إلى الآن يقول الزهراني “السؤال يعيدني إلى بعض ما قلت آنفا. نعم، أزعم أن الخطاب الفكري في بلدان المغرب طالما بدا لي أكثر امتلاكا لشروط الكتابة الفلسفية نظرا إلى تشكله ضمن المنظومة التعليمية الفرنسية أولا، ثم لحواره الجاد المتصل مع المرجعيات الأوروبية والغربية عموما، وقد تشكل كخطاب أكاديمي مستقل منذ ثلاثة عقود على الأقل. ويكفي أن نلقي نظرة على منجزات الأسماء التي ذكرت، ومعها غيرها حتما، حتى نفاجأ بقلة الأسماء الموازية في المشرق حيث تهيمن الصراعات الحادة المتصلة التي عادة ما تهدّد حتى منطق العيش اليومي السوي ومعه وجود الكائن الحي ذاته”.

وحول نظرته إلى غياب النقد الجاد راهنا في الثقافة العربية يقول الزهراني “يذهب العروي إلى أنه لا يوجد فكر في جهة ونقد في جهة أخرى لأن الفكر الحديث كله إما أن يكون نقديا أو لا يكون. هناك فكر نقدي جيد في مجمل بلداننا لكنه لا يؤثر كثيرا خارج دائرة النخب المثقفة لأن الخطابات الرسمية المهيمنة، سياسية كانت أو ودينية، تحاصره وتمنعه من التداول في الفضاءات الإعلامية التابعة لها، بل وقد تمنع حضوره داخل الفضاء الجامعي ذاته”.

ويضيف “نعم، قد يكون من المنطقي تماما أن يحاكم أدباء ومثقفون نقديون في بداية القرن العشرين أما أن تتواصل الظاهرة إلى وقتنا الراهن، وباسم منطق الجهالات ذاته، فهذا مؤشر تدهور عام في مختلف المنظومات الثقافية العربية، لأن لغة الخوف لا تنتج سوى المزيد من المخاوف. هل ستغير وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وضعية الانحباس هذه في المدى القصير أو المتوسط؟ لا أدري. كل ما أرجو أن نعمل من أجله هو أن نظل نفكر ونحلم نكتب وننشر ونتواصل ولو من باب تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، وهو موقف سيزيفي دونما شك، لكنه يظل أفضل من الانسحاب في عتمة اليأس والصمت”.

15