معالم ومواقع أثرية جزائرية عمرها أكثر من مليوني عام بحاجة إلى مشروع تأهيل ضخم

أكد باحثون جزائريون في علم الآثار أن عدم تحيين بطاقات الجرد يعد من أبرز العراقيل التي تواجهها عملية جرد التراث الثقافي المادي واللامادي في الجزائر، رغم حيازتها على تاريخ عريق وآثار راسخة في القدم، وبعض ملامح الحياة التي تعود إلى ما يناهز المليونين ونصف مليون عام، علاوة على الكنوز المعمارية التي تركتها الحضارات المتعاقبة على الجزائر منذ الآلاف من السنين وصولا إلى الفترتين العثمانية ومن ثم الاحتلال الفرنسي الذي ترك معالم هامة لا بد من صيانتها.
الجزائر- لا يزال مصير المشروع المفتوح من طرف الحكومة الجزائرية لترميم وإعادة الاعتبار للمعالم الأثرية، يشوبه الكثير من الغموض، بسبب آليات تنفيذ المخطط ومدى قدرة النسيج المؤسساتي المضطلع بالعملية على الحفاظ على هوية تلك المعالم والوفاء لسياقها التاريخي والحضاري، وتحويلها إلى مصدر دخل اقتصادي وسياحي للبلاد، خاصة وأن تجارب سابقة انتهت بالفشل بسبب الارتجال في التنفيذ وعدم إسناد المهمة للمختصين والخبراء في هذا المجال.
وتحصي وزارة الثقافة والفنون الجزائرية أكثر من 15 ألف موقع أثري تشكل الخارطة الجديدة للمعالم والآثار التي أعدها علماء آثار وباحثون، وهو جرد يجعل من البلاد متحفا مفتوحا على مختلف الحضارات والعصور التاريخية القديمة، غير أن الوضعية المزرية للكثير منها، وضع الوزارة الوصية أمام تحدي كبير لإعادة الاعتبار إلى كل ذلك الزخم التراثي والتاريخي بغية تأهيله لأداء دوره ورسالته الثقافية والحضارية.
بعمر مليونين ونصف عام

تماثيل مثيرة للجدل
خلص الجرد الذي أعده فريق الخبراء والمختصين إلى أن العدد الجديد، يمثل أضعافا للعدد المتداول في السابق، حسب إحصائيات الأطلس الأثري الذي أعده مطلع القرن الماضي العالم الفرنسي المتخصص في أفريقيا الرومانية ستيفان غزيل.
ويذكر مدير المركز الوطني للبحث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ الباحث فريد خربوش أن “الخارطة الوطنية لآثار البلاد سياقات تاريخية، تسمح بالتعريف بنتائج أزيد من 120 سنة من البحث والاكتشافات الأثرية عبر الوطن، وقد قامت بجرد كنوز من التراث يمتد عمرها إلى 2.5 مليون سنة”.
ولفت إلى أن الأمر يتعلق بـ”آثار هامة ومواقع تاريخية، وهي تضم 7 آلاف موقع، منها 4700 موقع أثري يعود تاريخها إلى ما قبل التاريخ، ما يجعل من هذه الخارطة الجديدة أهمية كبيرة على عدة مستويات”.
إلا أن هذا الزخم أضاف أعباء ضخمة على عاتق وزارة الثقافة والفنون من أجل رد الاعتبار للكنز التاريخي المتهالك، وترميم المعالم التاريخية التي تظل مرآة عاكسة لحضارة البلاد وهويتها، بداية من العصور القديمة إلى غاية الاستعمار الفرنسي الأخير.
وتبقى القواسم المشتركة بين المعالم الأثرية المعروفة والمكتشفة حديثا، وبين النسيج العمراني الموروث عن الحقبتين العثمانية والفرنسية، تشكل عبئا ثقيلا على الوزارة الوصية، لأن ترميم النسيج المذكور لا يندرج في سياق تأهيل سكن عادي، بل يعتبر حفاظا على عمران تاريخي في الأحياء والبلدات التاريخية، كما هو الشأن في حي القصبة العثمانية والأحياء الأوروبية العريقة كالعربي بن مهيدي وديدوش مراد، وزيغود يوسف.. وغيرها.
وتشير إحصائيات رسمية قدمتها الهيئة الوطنية للرقابة التقنية، إلى إجراء خبرة على أكثر من 380 ألف مبنى في إطار عمليات ترميم البناء القديم التي أطلقتها السلطات خلال الـ20 عاما الأخيرة.
وفضلا عن عمل الخبرة، تكمن مهمة الهيئة في مساعدة مكاتب الدراسات لأجل إيجاد حلول ترميم بنيوية ومقاومة للطوارئ الطبيعية، مثل الزلازل. وتدرس هذه اللجنة إعداد دفتر شروط متعلق بأشغال الترميم، من شأنه فرض أعمال تحترم البيئة، بغية السماح للهيئة الوطنية للرقابة التقنية بالحصول على المزيد من الصلاحيات وجلب مهارتها في الميدان.
وفي تعليق على دقة وحساسية العملية المفتوحة بالعاصمة في أحياء أوروبية ذكر أحد أعوان الترميم، أن “ما يقوم به الفريق ليس إصلاحا أو ترميما عاديا، بل هو إعادة الروح والشكل الأصلي للنمط العمراني، لذلك فنحن كمن يمسك بحذر على البيض، فأي حركة في غير محلها ستشوّه الحقيقة”.
وفق ما جاء في الجرد “هذا تاريخ وتراث بين أيدينا يتوجب الحفاظ عليه بكل أمانة وصدق، ونحن مطالبون بإحياء الوجه التاريخي والعمراني للمدينة، وهذا هو صلب دفتر الشروط مع الوصاية، لذلك نسعى للوفاء بالتزاماتنا للوصاية وللذاكرة وللتاريخ”.

ضرورة ترميم المعالم التاريخية التي تظل مرآة عاكسة لحضارة الجزائر وهويتها من العصور القديمة إلى الاستعمار الفرنسي
وكانت العاصمة الجزائرية لوحدها تحصي ما لا يقل عن 100 موقع أثري، يعود إلى مختلف الحقب التاريخية، تعاني حالة إهمال ولامبالاة قبل أن تصنف في الخارطة الجديدة للمعالم الأثرية في ربوع البلاد.
وصرّحت نائبة رئيس المجلس الشعبي الولائي لولاية الجزائر فريدة جبالي، بأنه “يوجد على مستوى العاصمة أكثر من 100 معلم أثري على غرار القصور التي تعود إلى مختلف الحقب التاريخية ومازالت مهملة وغير مصنفة، وأن مديرية جرد الممتلكات الثقافية التابعة لمديرية حفظ التراث الثقافي وترميمه بوزارة الثقافة تضم 89 معلما وموقعا أثريا، 58 منها مصنفة ضمن القائمة الوطنية للممتلكات الثقافية”.
وأوضحت جبالي أن “العاصمة لوحدها تحتوي على أكثر من 10 قصور تعد من أجمل القصور على مستوى الوطن، وهي في حاجة إلى عمليات ترميم وإعادة تأهيل على غرار الحصن التركي المتواجد في ضاحية برج الكيفان، وهو عبارة عن قصر شيد على صخرة كبيرة لكنه حوّل إلى سوق للخضر والفواكه”.
ولفتت إلى أن “الاهتمام منصب بشكل جاد على إعادة الاعتبار للمعالم والمواقع الأثرية، لاسيما القصور التي تحتضنها العاصمة، على غرار قصر ‘بربروس’ العثماني الذي شيد منذ خمسة قرون، وهو في حاجة إلى عمليات ترميم، وأن مديرية الثقافة لولاية الجزائر تعمل حاليا على إعادة تأهيل هذه المعالم لترقية السياحة بالعاصمة”.
نهاية الرواية الفرنسية
وتولي اللجنة الثقافية التابعة للمجلس الشعبي الولائي لولاية الجزائر، أهمية لكل المواقع الأثرية الموجودة بالمحافظة من أجل ترميمها وإعادة تأهيلها والحفاظ عليها لاستعادة الوجه الحضاري والتاريخي للعاصمة.
أبرز المواقع الأثرية التي شرعت الجزائر في ترميمها مؤخرا، الموقع الأثري العتيق المسمى بـ”روزقونيا” الموجود بضاحية تامنتفوست في ضاحية خليج الجزائر، وهو عبارة عن مدينة تعود إلى العهد الروماني تتكون من قصر وكنيسة وحمامات رومانية.
كما تتضمن ضاحية تامنتفوست، حسب جبالي، أدوات أثرية قديمة تعود إلى حقب تاريخية مختلفة، لكنها تأسف لعدم تأمين الموقع، واستغلاله من طرف بعض الانتهازيين لأغراض أخرى لا تمتّ بصلة للطابع التاريخي والحضاري.
غير أن المشروع برمته والورش المفتوحة في مختلف المواقع الأثرية والعمرانية لا تخلو في كل مرة من جدل أيديولوجي وحتى سياسي، خاصة في ظل الإخفاقات الكثيرة لهيئات الوزارة الوصية في تجسيد حتى بعض التماثيل المنصبة لبعض الشخصيات، بسبب إسناد العمل لغير المختصين أو خوضه للطرق الملتوية، كما حدث مع تمثال عبدالحميد بن باديس في مدينة قسنطينة، وتمثال “شاشناق” في مدينة تيزي وزو.
كما يبدو أن الأتراك يريدون استعادة أمجادهم العثمانية في الجزائر، بالضغط والإلحاح على الانفراد بترميم المواقع الأثرية، كما حدث مع “جامع كتشاوة” بالعاصمة، الذي كان ضمن أجندة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لتدشينه خلال زيارة له للجزائر العام 2018، قبل أن تراجع الأجندة ويتم الاكتفاء بحضور زوجته فقط.
وأثار المتعاطفون مع الأتراك خاصة منهم منتسبو التيار الإخواني، موجة انتقاد شديدة لما أسندت وزارة الثقافة مشروع ترميم حي القصبة، لشركة فرنسية مختصة، واعتبر هؤلاء أن “التيار الموالي للفرنسيين في السلطة، يريد رهن تاريخ البلاد لصالح أعداء الأمس، رغم أن الأتراك أبدوا رغبتهم في ترميمه مجانا”، وهو ما اضطر الوزارة إلى فسخ العقد وإبرام اتفاقية جديدة مع أحد المتعاملين المحليين.
وتبقى سلطة تسيير المعالم والمواقع الأثرية، أكبر عائق أمام وزارة الثقافة والفنون، للحفاظ على تلك الكنوز خاصة بعد ترميمها وتأهيلها، في ظل غياب مخطط حكومي واستراتيجية دولة للنهوض بهذا القطاع، باعتباره مصدر دخل اقتصادي وواجهة لتاريخ وحضارة البلاد.
تتحدث تقارير متواترة عن حالات إهمال ولامبالاة للكثير من المعالم والمواقع في عدد من المحافظات والمدن والبلدات الجزائرية، كما هو الشأن لمغارة عالم الاجتماع ابن خلدون في محافظة تيارت في غرب البلاد، أين ألف كتابه الشهير “المقدمة”، والمصير الذي آل إليه بيت المفكر الكبير مالك بن نبي، في مدينة تبسة شرق البلاد.
ومع ذلك فقد ثمّن فريد خربوش مدير المركز الوطني للبحث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ الباحث كثيرا الإحصاء الجديد لوزارة الثقافة والفنون لقطاع المعالم والمواقع الأثرية ووصفه بـ”الحدث التاريخي الكبير”، لأنه أعاد الاعتبار إلى حقيقة الزخم التاريخي للبلاد، وأنهى عقودا من الاعتماد على الدراسة الفرنسية.
ولخص أهمية الخارطة في أربعة محاور تتمثل أولا في البحث العلمي في مجال الآثار كعلم، وثانيا في البعد السياحي، وثالثا في قطاع الأشغال العمومية حيث تحمي هذه الخارطة المنشآت الأثرية، أما الرابع فيتمثل في الأمن القومي والحدود التاريخية للبلاد.
ولفت إلى أن “هناك أكثر من 200 موقع هام جدا، منها مواقع مصنفة كتراث إنساني لدى الأمم المتحدة، والعدد الإجمالي يجعل من الجزائر بلدا استثنائيا في عدد المواقع الأثرية، ووفق هذا الطرح فإن الجزائر تضم كل الحقب التاريخية للبشرية. وعلى سبيل المثال، فإن أقدم موقع أثري في الولايات المتحدة عمره 15 ألف سنة، ولكن تاريخ الجزائر يحسب بالملايين من السنوات، وحسب الخبراء لا يوجد الكثير من الدول عبر العالم لديها القدرة على حكاية تاريخ البشرية بهذا الشكل”.
أما كمال ستيتي عالم الآثار ومدير الديوان الوطني للحظيرة الثقافية للأطلس الصحراوي، فقد اعتبر الخارطة الجديدة بنك معلومات هام جدا، وأن الهدف الأساسي منها هو حماية الآثار والتراث من العوامل الخارجية المؤثرة، وإعطائه بعدا حضاريا وتاريخيا للبلاد، لاسيما وأن هذا القطاع هو رافد جديد للاقتصاد الوطني إذا أحسن استغلاله.
وأحصى الديوان لوحده الذي كان ضمن فريق إعداد الخارطة، 150 موقعا تراثيا هاما توجد على طول حوض شريط الحضنة شرقا إلى حدود المغرب، وهي المنطقة التي تضم أبرز المواقع الأثرية في الجزائر.
سلطة تسيير المعالم والمواقع الأثرية تبقى أكبر عائق أمام وزارة الثقافة والفنون، للحفاظ على تلك الكنوز خاصة بعد ترميمها وتأهيلها، في ظل غياب مخطط حكومي واستراتيجية دولة للنهوض بهذا القطاع.