معادلة غامضة بين العراقيين

ترتاح الكثير من الأحزاب والشخصيات إلى السكوت عن فسادها وقضاياها وتصرفاتها وقراراتها ومواقفها، وتتمنى نسيانها أو على الأقل تجاهل الحديث عنها وعدم الاكتراث بها علنا. ولكن الرياح لا تجري دائما كما تشتهي السفن. والمتورطون مع رئيس اللجنة المالية النيابية للدورة السابقة والمستشار السابق في رئاسة الوزراء هيثم الجبوري في سرقة القرن، والتي يمكن وصفها بسرقة الساعة أو اليوم أو الأسبوع أو الشهر مقارنة بمئات المليارات المسروقة، لم يعلقوا على أمر السرقة وإلقاء القبض عليه، واختاروا الصمت المتباين والتحلي بدرجة عالية من الهدوء الحذر المليء بالفزع، خوفا من رد الفعل الشعبي، وربما اعتقادا منهم بأن صمتهم يجنّبهم التورط مع المحاكم، أو قد يُفهم منه الموافقة على مكافحة الفساد، أو إعطاء صورة إيجابية عن تحركاتهم.
الذين اعتقلوا سمسار صفقات السياسة والأخلاق هيثم الجبوري كانوا متأكدين من أن شركاءه من الفاسدين والسُرّاق لا يقبلون باعتقاله، ليس حبا به أو مودة له، بل خشية من القضايا التي تحيط بملفاتهم القذرة، وكانوا على يقين بأنه سيطلق سراحه في أقرب وقت، مع ذلك اعتقلوه لجس نبض القوى التي شاركت في هذه الجزئية، ولاختبار قدرتها على البقاء في مواقعها دون مباركة أصحاب المفاتيح الرئيسية في العراق.
أما التباسات إطلاق سراحه، ببدعة إعادة جزء من الأموال المنهوبة من قبل زوجته المتسترة على سرقاته (وفي القانون كما يعلم الجميع التستر على الجريمة – جريمة)، بعد أيام قليلة من الإعلان عن إطلاق سراح أستاذه نور زهير بإيعاز مباشر من شركائه الذين يبحثون عن هدوء ولو مدفوع الثمن، يخفف عن كاهلهم بعض الضغوط التي حشرتهم في الزاوية الضيقة المليئة بالتحديات والتي أسهمت في تغذية الكثير من الغضب الشعبي ضدهم، فهو قصةٌ مليئة بالشجون ووصولٌ إلى مرحلة القبول بوضعية يتساوى فيها المجرم مع البريء، وإفصاحٌ عن حقيقة سهولة خرق القانون، وتعبيرٌ هدفه الإيحاء بأن مهمة الهيئة التي ألقت القبض على هيثم وأي هيئة أو لجنة أخرى ستكون شكلية، وأن تحرّرها من القيود المفروضة عليها وعلى أمثالها تحرر نسبي، ولا تستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من التزاماتها. وجميع التصورات التي تتبناها هذه اللجان يجب أن تخضع لتفاهمات خلفية وحسابات سياسية ومصالح ميليشيات مسلحة تأتمر بأوامر خارجية، لا تعرف معنى المواطنة وتصر على النهب والتخريب وممارسة عقدها المرضية.
بين الهيئة التي ألقت القبض على هيثم الجبوري الذي مارس لعبة الارتشاء والإساءة والابتزاز والصراخ في البرلمان ونشر الفساد والإفساد وإثارة الفتنة الطائفية في الإعلام، والسياسيين المتنفذين الذين استباحوا هيبة القضاء وأمعنوا في إنهاك العراقيين وأصروا على تشويه صورة ما جرى من قبل حكومة محمد شياع السوداني ومارسوا الضغوط المختلفة لإطلاق سراحه رغما عن اعترافه ووجود الأدلة التي تثبت جرائمه من جهة، وبين الشعب العراقي المغلوب على أمره والوطنيين الصامتين حتى الآن من جهة أخرى، معادلة غامضة وغير متوازنة وحكاية مليئة بالشد والجذب والإثارة والإرباك والارتباك والتلعثم، تتضارب فيها الإرادات المحلية والإقليمية التي تستهدف مستقبل وثروات ومقدرات وأمن العراق السياسي والاجتماعي.