مباحثات أربيل وبغداد وعراق غاب عنه الاستقرار طويلا

المباحثات التي جرت خلال الأشهر السابقة بين بغداد وأربيل، والتي كانت حافلة بجملة موضوعات وقضايا محورية وملفات مهمة مختلفة، أصبحت عناوين للأخبار والتقارير الإعلامية المتداولة التي تناولت مستقبل العلاقات بين العراق وإقليم كردستان.
لندع جانباً التصريحات والأخبار والبيانات الرسمية التي صدرت، ونبتعد عن الصخب الإعلامي الذي رافق الاجتماعات، وقصص المراسلين الصحافيين الذين يبحثون عن السبق الصحفي، لأننا على يقين بأن الذي يذاع في الإعلام يختلف كثيراً عن الذي يقال في الاجتماعات المغلقة. وهذا هو نهج السياسة والدبلوماسية في التعامل مع الكثير من الملفات بدواعي الحفاظ على السرية والتكتم حتى الانتهاء من ترتيب الأوراق بشكل رسمي.
دعونا نركز على العموميات الحالية على أرض الواقع، في اللحظة التاريخية الراهنة، وعلى الفرص المناسبة وغير المناسبة لإعادة هندسة وتوصيف وترسيم علاقات أربيل وبغداد، وفقا للمعطيات الإستراتيجية الراهنة، والتي يراها الكثيرون بأنها قريبة من فكر وتطلعات عامة المواطنين في العراق وإقليم كردستان، ولكنها مرهونة بحسابات إستراتيجية متشابكة. للعراق وضع استثنائي لم يتغير بشكل جوهري رغم تغيير النظام وتبدل الحكومات، ولم يستطع حتى الآن بناء علاقات متوازنة مع شعب كردستان وحتى مع دول الجوار، عدا الجارة إيران. وللأكراد حسابات تتعلق بالحاضر والمستقبل بالشكل الذي يحقق لهم مصالحهم وفق الدستور والتفاهمات والتوافقات الجديدة التي تتناسب مع الواقع الجديد في عراق غاب عنه الاستقرار طويلا.
◙ أربيل ما زالت تصارع بذكاء مشهود من أجل البقاء قوية، وتمارس دبلوماسية تتسم بقدر عال من الهدوء والحكمة والكياسة، وترى أنه من الطبيعي للغاية أن تكون لها علاقات طبيعية مع الجميع
بغداد التي لم تنفذ التزاماتها وتعهداتها لأربيل، ترى في قرار غرفة تجارة باريس تحولا كبيرا ونجاحا وإنجازا نوعيا مهما، وتريد استغلال ذلك في إعادة صياغة كاملة لمسيرة العلاقات التي تربطها بأربيل، وبمناوراتها المتعددة وتسويفاتها ومماطلتها في تنفيذ الاتفاقات والقوانين والدستور العراقي، وتسعى بدقة لكسب المزيد من الوقت من أجل إرضاء المعادين لأربيل وتحقيق أهداف محددة تتحول إلى أوراق ضغط على الإقليم. وتحاول مصادرة حقوق أربيل الدستورية وتشتيت صفوف الأطراف السياسية الكردستانية وكسر عظم الأطراف السياسية التي تدافع عن كيان الإقليم وقطع أرزاق الكردستانيين. رغم أن هذا الطرف مشارك في ائتلاف إدارة الدولة التي رشحت محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء.
هذا الموقف يحسب عليها وليس لها، لأنها بذلك منافية للعقلانية وللخارطة الجيوسياسية. وخلال مفاضلتها بين المبادئ والمصالح تتدبر ما تريد بالعاطفة لا العقل، وتمتلك حججا وذرائع ومقدمات تسهل لها إثارة موضوع ما والترويج لأفكارها واعتبارها من الضروريات، والتغاضي عن أفكار تريد تجاهلها بسرعة وتعتبرها سذاجة وباطلا، دون الاهتمام باللوم الكردستاني وانتقادات المراقبين. وهي الآن، على دراية بضائقة أربيل المالية، لذلك تلجأ إلى الاستكبار والاستعلاء تارة وإلى لعبة المقايضات وتحاول استغلال هذه المشكلة لسحب تنازلات من أربيل حول النفط والمادة 140 من الدستور والبيشمركة وحصة الإقليم من الموازنة.
أربيل، التي قالت ذات يوم “نعم للاستقلال عن العراق”، والتي عليها التزامات وروابط مادية ومعنوية لا يمكن التضحية بها، والتي نجحت في تغيير الصورة النمطية التي ارتبطت بالأكراد طويلاً وفي إعادة تموضع إقليم كردستان على خارطة الطاقة الدولية في غضون سنوات قلائل، والتي باتت أحد مراكز الجذب السياسي والاقتصادي والاستثماري التي تستقطب اهتمام الآخرين، تتفهم جيدا رسائل بغداد وتعلم أن تشكيل اللجان يعني التسويف وعدم حل المشكلات، لذلك نراها الآن منزعجة من سياسات بغداد، وربما فقدت الأمل بها كلياً.
مع ذلك ما زالت تصارع بذكاء مشهود من أجل البقاء قوية، وتمارس دبلوماسية تتسم بقدر عال من الهدوء والحكمة والكياسة، وترى أنه من الطبيعي للغاية أن تكون لها علاقات طبيعية مع الجميع لترسيخ الأمن والاستقرار والتعايش في منطقة غاب عنها الاستقرار طويلاً.