مصطفى كمال طلبة عقل عربي جريء يشكره العالم وتهمله بلاده

السبت 2016/04/09
مصطفى كمال طلبة دبلوماسي وعالم مستقبليات تنبأ بمشاكل الكوكب

القاهرة- تعلم الدبلوماسية من محمود فوزي أول وزير لخارجية مصر عقب ثورة يوليو 1952 ورئيس الوزراء في 1971 مع بداية عصر الرئيس الراحل أنور السادات. وحفظ من دروس البروتوكول التي نالها أفضل أجزاء فيها، مثل اللباقة والأدب الجم والحكمة إلى جانب القدرة على إدارة الخلافات.

تلك الصفات ميّزت شخصية الدكتور مصطفى كمال طلبة الذي رحل عن الدنيا في الثامن والعشرين من مارس الماضي. وساعدته على التحول من العمل المحلي إلى آفاق العالمية سفيرا للبيئة ومدافعا شرسا عنها ضد كل من يحاول تلويثها.

لذلك استحق لقب رائد الدبلوماسية البيئية، بعدما ساهم مع صديقه الكندي موريس سترونك في تأسيس أول كيان دبلوماسي دولي من أجل البيئة وهو “يونيب” في العام 1973.

المصري العالمي

رغم اعتزازه الشديد بمصريته فإن قراءة سيرة حياة ومذكرات الدكتور طلبة تكشف بسهولة الفارق الكبير بين العقلية المصرية والعالمية، التي سمحت بحدوث واتساع الفجوة الحضارية بين الغرب والدولة التي يرجع إليها تأسيس الحضارات الأولى في تاريخ الإنسانية.

من المفارقات التي يمكن أن تثير ضحكا كالبكاء، كما قال المتنبي في قصيدته الشهيرة، أن وفاة طلبة كانت أيضا حلقة جديدة في سلسلة كشف الفوارق بين مصر والغرب. حيث تعامل الإعلام المصري مع خبر وفاته بقلة اهتمام، واكتفت أغلب الصحف بخبر مقتضب من سطور قليلة.

في الوقت نفسه رثت كبريات الصحف العالمية العالم الراحل وأعادت التذكير بأبرز إنجازاته المتمثل في بروتوكول مونتريال الذي أبرم في العام 1989 خلال عمله مديرا تنفيذيا لبرنامج “يونيب”.

في وصفه لبروتوكول مونتريال لم يجد كوفي أنان سكرتير عام الأمم المتحدة السابق عبارات أفضل من اعترافه بأنه يعد أنجح اتفاق دولي تم التوصل إليه منذ إنشاء الأمم المتحدة، وهو الوصف الذي يتفق معه الكثير من الخبراء.

البروتوكول الذي تم إعلانه في مدينة مونتريال الكندية لحماية طبقة الأوزون من الانبعاثات الكربونية، واحد من أكثر المعاهدات الدولية التي جرى التوافق حولها، بخلاف المئات من المعاهدات والقرارات التي أصدرتها هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، حيث صادقت 197 دولة على البروتوكول وهو أكبر عدد من الموافقات حازت عليها معاهدة واحدة في تاريخ المنظمة الدولية.

قدرته على التنبؤ بالأحداث قبل سنوات طويلة من وقوعها من بين مواهبه العديدة. ويحسب له تنبؤه الفذ بالهجرة غير الشرعية قبل أكثر من عقدين على بداية الأمر، وأربعة عقود من تحولها إلى ظاهرة مقلقة

يعزى للبروتوكول الذي نجح طلبة في تحقيق إجماع دولي نادر عليه، إنقاذ العالم من مصير مظلم كان يحث الخطى نحوه بسبب تأثير الغازات الناتجة عن الصناعة.

وقد ذكرت الإيكونوميست أن ذلك البروتوكول ساهم بالفعل في حماية البيئة من 135 مليار طن من غاز ثاني أكسيد الكربون السام منذ توقيع الاتفاقية حتى يوم وفاة طلبة في 28 مارس 2016 عن 93 عاما.

كان طلبة نفسه قد أعلن في مذكراته التي نشرت قبل عامين تقريبا بأن سماكة طبقة الأوزون عادت إلى الارتفاع مجددا لتبلغ عام 2012 معدل 136 وحدة دوبسون (وحدة قياس الأوزون)، بعدما كانت قد وصلت إلى أقل من 93 وحدة عام 2006.

هذا التحسّن حمى البشرية، كما ذكرت المصادر، من انتشار نوعين من سرطان الجلد في مختلف دول العالم، لكنه بدلا من أن يحمل التكريم لصاحب المبادرة جلب عليه عداوات دولية أبرزها مع الحكومة الأميركية ليلقى مصير مواطنيه بطرس غالي ومحمد البرادعي، وهو الإبعاد من الهيئة الدولية بعدما تجرأوا على السير في غير الاتجاه الذي تريده واشنطن.

ثمن الاستقلالية

طبيعته الدبلوماسية وذكاؤه العلمي ساعداه في انتزاع موافقة أميركية نادرة على التصديق على بروتوكول مونتريال عام 1989، لكن سرعان ما انتبه أبناء العم سام لخطئهم في حق أساطين الصناعة الأميركية، لتتخذ الحكومات المتعاقبة في واشنطن موقفا رافضا للتصديق على أي اتفاقية خاصة بالبيئة.

العالم المصري كرس جهده طوال وجوده في منصبه الأممي لقضية حقوق الفقراء واستطاع ربطها بقضايا البيئة ومشاكلها، وجمع حصيلة جهوده في كتاب “بيئة العالم”

هذا التعنّت الأميركي في قضية تمتد آثارها إلى البشر في كل أنحاء الكرة الأرضية، أخرج طلبة عن وقاره الدبلوماسي. ليعلن انتقاداته بشكل علني للولايات المتحدة التي ترفض التصديق على أي معاهدة تحافظ على البيئة.

وتتهرب من توقيع اتفاقية التنوع البيولوجي حينما كان بوش الأب رئيسا، بدعوى أنها تضع قيودا على الصناعات الكيميائية والدوائية في استخدام الكائنات الحية. حيث أعاد بوش الابن رفض اتفاقية تغيّر المناخ لإرضاء أصحاب المصالح الأميركيين من رجال البترول والصناعة.

مواقف طلبة التي سارت في غير الاتجاه الأميركي، وضعته في مواجهة مع حكومة القوى الأعظم في العالم في حقبة التسعينات. ورغم أنها لم تكلفه فقدان منصبه كمدير تنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بحكم أن المواجهة بدأت قرب نهاية فترته الرابعة في منصبه الدولي (انتخب عام 1976 وتم التجديد له 4 مرات حتى العام 1992).

لكن المواجهة كلفته في المقابل انتقادات عنيفة من منظمات دولية بإيعاز من الحكومة الأميركية، اتهمته بخيانة البيئة بسبب موقفه الموافق على عدم الإنهاء الكامل والفوري لإنتاج واستخدام المواد المستنفدة لطبقة الأوزون، مستندا إلى قناعته الواقعية التي كشف عنها في تصريحات صحافية في ذلك الوقت من العام 1987 “إذا كنا نريد حماية البيئة فلنبدأ بخطوة وسوف تتلوها خطوات، وإن ما لا يدرَك كله لا يترَك كله”.

اللافت في علاقة طلبة بالولايات المتحدة التوتر الذي يكاد يكون القاسم المشترك الوحيد تقريبا في علاقة واشنطن بالمصريين الذين تولوا مناصب دولية. حيث يمكن تذكّر أزمة الحكومة الأميركية مع محمد البرادعي حينما عارضت ترشحه لولاية ثالثة كرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بسبب موقفه حينما رأس مفتشي الأمم المتحدة في العراق قبل الغزو الأميركي.

فقد أكد في بيانه أمام مجلس الأمن على أن فريق التفتيش الدولي لـم يعثر على أي أنشطة نووية مشبوهة في العراق. ما دفع الولايات المتحدة إلى معارضة ترشيحه، كما أثارت صحيفة واشنطن بوست جدلا بالكشف عن قيام الحكومة الأميركية بالتنصّت على مكالماته للعثور على ما يساعدها في إزاحته.
العالم المصري كرس جهده طوال وجوده في منصبه الأممي لقضية حقوق الفقراء واستطاع ربطها بقضايا البيئة ومشاكلها، وجمع حصيلة جهوده في كتاب "بيئة العالم"

سبق ذلك الدور الأميركي في عدم التجديد للراحل بطرس غالي كسكرتير عام للأمم المتحدة في تسعينات القرن الماضي، بسبب تقرير مذبحة قانا الذي أعده وفضح به جرائم الاحتلال الإسرائيلي خلال مجزرة وقعت في جنوب لبنان، ما أحرج إسرائيل أمام الرأي العام وأزعج الولايات المتحدة.

لذلك رفضت الولايات المتحدة التجديد له بدعوى أن غالي كثير السفر، وعنيد وصعب المراس ولديه آراء محددة، حسبما قالت وزيرة الخارجية الأميركية وقتها مادلين أولبرايت.

ربما لم يسمع طلبة المقولة الخالدة التي أطلقها الشاعر والأديب الروماني الشهير كوينتس هوراتيوس قبل أكثر من 1950 عاما عن أن “التعلم يضاعف المواهب”. لكنه بالتأكيد قدم دليلا عمليا عليها خلال مشاركاته الدولية، فتعددت مواهبه كلما تعمّقت معرفته وتوسع علمه.

من بين مواهبه تبرز قدرته على التنبؤ بالأحداث قبل سنوات طويلة من وقوعها، ويحسب له في هذا السياق تنبؤه الفذ بالهجرة غير الشرعية قبل أكثر من عقدين على بداية الأمر، وأربعة عقود من تحولها إلى ظاهرة مقلقة استدعت توحد الحكومات الأوروبية للبحث عن حلول ناجعة لها.

رصد مبكر

القصة بدأت عام 1974 حينما طالبت الدول الأفريقية الجمعية العامة للأمم المتحدة بتنظيم مؤتمر عن التصحّر، لإنقاذها من حالة الجفاف التي تعرضت لها القارة في الفترة من 1968 وحتى 1973. وافقت الأمم المتحدة وأناطت ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة الإعداد لعقد المؤتمر، واختارت المجموعة الأفريقية طلبة سكرتيرا عاما للمؤتمر.

واجه المؤتمر وما تلاه من لجان استشارية شكلت لبحث الموضوع، مأزق كون الدول الصناعية كانت تعتبر التصحر مشكلة تخص أفريقيا وحدها. وبالتالي رفضت بإصرار كل المقترحات لمساعدة الدول المتضررة من التصحر.

ضاعت نصائحه البيئية والعلميــة لكل المسؤولين في الدولــة وسط انشغالهم كما قال بعــلاج مشاكــل رغيف العيش والمواصلات

لكن طلبة وجد مدخلا يثير اهتمام الغرب حينما أكد أن الغرب ليس بعيدا عن آثار التصحر. حيث سيدفع الفقراء والجوعى في أفريقيا إلى الهروب منها باتجاه الشمال، سواء بالطرق المشروعة أو غير المشروعة ليصلوا إلى أوروبا، في أول تنبيه عملي دولي لظاهرة الهجرة غير الشرعية.

الحقيقة أن العالم المصري كرس جهده طوال وجوده في منصبه الأممي لقضية حقوق الفقراء واستطاع ربطها بقضايا البيئة ومشاكلها، وجمع حصيلة جهوده في كتاب “بيئة العالم” الذي صدر قبل مؤتمر قمة الأرض مباشرة ويعتبره كثيرون بمثابة الكتاب المقدس للبيئة.

في هذا الكتاب أوضح طلبة في وقت مبكر جدا من التسعينات أن هدف التنمية القابلة للاستمرار لا يمكن بلوغه من دون تغيرات هامة في طرق التخطيط لمبادرات جديدة للتنمية. وأن أهداف التنمية لن تنجح من دون المساهمة العامة، لدرجة أن خبراء التنمية أطلقوا عليه اسم مهندس التنمية المستدامة.

كما رصد في الكتاب كل الكوارث البيئية التي يسببها الغرب المتقدم لدول العالم النامي، بداية من ثقب الأوزون مرورا بتغيرات المناخ والتلوث البحري والمياه العذبة والتصحر وتدهور الغابات والسموم والنفايات الخطرة والزراعة والصناعة والطاقة والنقل والسياحة.

غريب في بيته

أخفق بلده في الاستفادة من علمه وجهوده، اللّهم إلا في أوقات نادرة بلغت ذروتها في بداية حكم الرئيس المصري الراحل أنور السادات. يروي طلبة عن تلك الفترة في مذكراته، فيقول إنه حينما كان وزيرا للشباب عام 1971 عرض على الرئيس السادات إنشاء “تجمّع فكري” من العلماء يخطط للدولة على المدى البعيد.

بروتوكول مونتريال ساهم بالفعل في حماية البيئة من 135 مليار طن من غاز ثاني أكسيد الكربون السام منذ توقيع الاتفاقية حتى يوم وفاة طلبة في 28 مارس 2016 عن 93 عاما

بعدها طلب السادات منه ترك الوزارة لإنشاء أكاديمية مماثلة لأكاديمية موسكو التي كان قد زارها لتوه، ورأى كيف كان الاتحاد السوفييتي يهتز لكلمة الرجل الأكاديمي، وأطلق على الكيان الجديد اسم “أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا”.

صدر القرار الجمهوري بإنشاء الأكاديمية بحيث تتبع لرئيس الوزراء، ومنح رئيسها الحق في حضور اجتماع مجلس الوزراء، كما حرص القرار على أن يصونها من أن يلحقها أي تغيير في التعديل الوزاري حفاظا على استدامة عملها واستقرارها.

لكن الأكاديمية فقدت الكثير من بريقها بعد أن تركها طلبة للعمل في برنامج الأمم المتحدة للبيئة. حيث بات رئيسها تابعا لوزير التعليم العالي ثم وزير البحث العلمي، وتحولت إلى كيان إداري أضيف إلى العشرات من الكيانات الإدارية المعطّلة في مصر.

بعد عودته من الخارج في بداية التسعينات جرى تعيينه في العديد من المناصب الاستشارية الحكومية والخاصة، في ما بدا أنه محاولة لاستغلال اسمه العالمي أكثر منه رغبة في الاستفادة من علمه الغزير.

لهذا ضاعت نصائحه البيئية والعلميــة لكل المسؤولين في الدولــة وسط انشغالهم كما قال بعــلاج مشاكــل رغيف العيش والمواصلات. كما تجاهلوا اقتراحه القيّم بتشكيل فريق عمل يضع خططا طويلة الأجل لمصر، بعيدا عن الوزراء، تكون مهمته وضع تصور لشكل مصر سنة 2030 أو 2050، ويضم مجموعة فنيين لا يرغبون في منصب وزاري. هؤلاء يجري حبسهم في غرفة لمدة عامين ليدرسوا ويتابعوا ويخططوا ويتناقشوا، مع منحهم رواتب تكفي احتياجات أسرهم، كل ذلك لكي يخرجوا بعد عامين بسياسة تتبعها الدولة لتحقيق شكل المجتمع بعد 30 سنة.

تم تجاهل رأيه القيّم والدراسة التي أشرف على إعدادها حول ظاهرة السحابة السوداء التي اجتاحت العاصمة المصرية طوال سنوات في فترة حكم الرئيس السبق حسني مبارك، وتم اللجوء إلى استطلاع آراء غير المختصين، لمجرد أنه حمّل ما نسبته 70 بالمئة تقريبا من أسباب الظاهرة لعوادم المصانع وحرق القمامة وعوادم السيارات. الأمر الذي تعارض مع مصالح النافذين.

13